} د. حسن مرهج
ضمن إطار اللا منطقية السياسية والأهواء والتمنيات الشخصية، دأب الكثير من متابعي الشأن الإيراني، وكذا سياق التطورات الشرق أوسطية، وربطها بتصريحات ترامب حيال إيران، وعطفاً على اغتيال العالِم الإيراني محسن فخري زادة. كلّ ذلك تمّ إسقاطه في معادلة تهيئة المناخ السياسي والعسكري، لبدء حرب ضدّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وذلك خلال أسابيع قليلة قبل مغادرة ترامب البيت الأبيض.
عناوين كثيرة غزت المواقع الإخبارية، ترافقها تحليلات وسَمَت العديد من البرامج التلفزيونية، كلها تناولت الشأن الإيراني من بوابة الحرب التي يمكن أن يشنها ترامب في الأيام المقبلة، فالعنوان الأبرز تمحور حول هل يفعلها ترامب قبل الرحيل؟ بالقطع فإنّ الجواب لا. فالمنطقية السياسية وكذا العسكرية، تؤكد أنّ أيّ عمل عسكري ضدّ إيران، سيكون محفوفاً بمخاطر كثيرة تطال الدول التي تتمركز بها القواعد الأميركية، فضلاً عن استهداف مباشر لـ «إسرائيل»، ولا شكّ في أنّ عموم دول محور المقاومة لن يقفوا مكتوفي الأيدي تجاه أيّ اعتداء يطال طهران، لتتسع مروحة الأعمال العسكرية وتتعدّد الجبهات القتالية، الأمر الذي سيضع واشنطن ومحورها في زاوية الانكسار، خاصة أنّ واشنطن تدرك حجم القوة الصاروخية التي تمتلكها ايران، فضلاً عن الزخم الهجومي والخبرة التي لا تضاهى لعناصر المقاومة، التي تراكمت خلال الحرب على سورية.
كلّ تلك المعطيات تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، بأنّ ترامب لن تقوده حماقته لشنّ حرب ضدّ إيران، فـ «إسرائيل» حينها لن تكون بمنأى عن صواريخ المقاومة وفي كلّ الاتجاهات، وهذه الجزئية تحديداً تتطلب دراسة عميقة لأركان الإدارة الأميركية، والبحث بجدية عن خيارات أخرى علها تزيد من عزلة إيران، وكذا التضييق عليها في شتى المجالات.
بطبيعة الحال، هناك معلومات كثيرة تؤكد بأن الدولة العميقة في الولايات المتحدة، تبتعد عن خيار الحرب ضدّ إيران، إذ تدرك هذه الدولة بأنّ نتائج أيّ حرب على إيران ستكون كارثية بالمقاييس كافة، ومن ناحية أخرى فإنّ ترامب عملياً قد بات خارج التأثير في أيّ قرار يطال طهران ومحورها المقاوم، لكن وعطفاً على ما سبق، كنا قد حذرنا خلال الأسابيع الماضية، من عمليات تطال رموز محور المقاومة سياسياً وعسكرياً وحتى تكنولوجياً، فالحرب بهذا المعنى لا تحقق أي خسارة لواشنطن أو تل أبيب، في المقابل قد تكون مثل هذه الحرب إيجابية بالمعنى الأميركي، لجهة تصفية رموز المحور مع ضمان أنّ الردّ المضاد على ذلك، وبما لا يؤدّي إلى حرب واسعة النطاق.
ضمن هذه القراءة، جاء اغتيال العالِم النووي الإيراني محسن فخري زاده قرب طهران، لتكثر التكهّنات والشكوك في واشنطن والتي تركزت حول رغبة الأطراف المجتمعة في نيوم «السعودية إسرائيل أميركا»، بتوجيه ضربة موجعة لإيران خلال الفترة القصيرة المتبقية من ولاية الرئيس ترامب، مثل اغتيال فخري زاده، بغية جرّ إيران لردّ عسكري ضدّ «إسرائيل» والولايات المتحدة، وإعطائهما الحجة والذريعة القانونية والسياسية لشنّ ضربات عسكرية عقابية تستهدف المنشآت النووية الإيرانية.
بحسب مراقبين، فقد كشفت مصادر أميركية رسمية أنّ الرئيس ترامب طلب من مساعديه الأمنيين والعسكريين إعطاءه خيارات عسكرية لمعاقبة إيران وقصف مفاعل نووية مثل نطنز وغيرها، بعد أن كشفت وكالة الطاقة النووية الدولية أنّ إيران قد زادت من وتيرة تخصيبها لليورانيوم لأكثر من 12 مرة، بما يفوق الكمية التي سمح بها الاتفاق النووي الدولي الذي وقعته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما في 2015، والذي انسحب منه الرئيس ترامب في 2018 ثم أعاد فرض العقوبات النووية على إيران.
ورأى محللون أنّ اغتيال فخري زادة، يهدف أيضاً إلى القضاء على فرص الرئيس المنتخب جو بايدن بإعادة إحياء أو تعديل الاتفاق النووي مع إيران. وكان بايدن قد أعلن عن رغبته بإحياء الخيار الدبلوماسي مع إيران هو ووزير خارجيته المعيّن أنطوني بلينكن في أكثر من مناسبة، وهذا يعني أولاً السعي إلى استئناف المفاوضات مع طهران، إذا قبلت بالعودة إلى تعهّداتها المنصوص عنها في الاتفاق النووي، وتطوير الاتفاق ليشمل فترات أطول للقيود المفروضة على تخصيب اليورانيوم، وربما فرض قيود جديدة على برنامج إيران الصاروخي.
من المؤكد أنه إذا لجأت إيران إلى الردّ العسكري واستهدفت مصالح أميركية في العراق على سبيل المثال، وردّت عليها إدارة الرئيس ترامب بضربات استراتيجية تستهدف بنيتها التحتية النووية، فإنّ ذلك سيترك للرئيس المنتخب جو بايدن إرثاً ملتهباً لن يستطيع إطفاءه بسهولة، وسوف يقضي على أيّ فرص لإحياء المفاوضات مع إيران، على الأقلّ في المستقبل المنظور، وربما لسنوات أطول.
حقيقة الأمر، الردّ الإيراني آتٍ لا محال، لكنه ردّ ستتمّ هندسته بطريقة لا تؤدّي إلى تصعيد عسكري كبير، ولا يعطي الفرصة لواشنطن ومحورها بشنّ أيّ هجمات ضدّ إيران، لكن من المؤكد أيضاً، أنّ الردّ الإيراني سيؤلم واشنطن وتل أبيب، وهذا ما أكدته غالبية القيادات الإيرانية، وتحديداً المرشد الأعلى، الأمر الذي يضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما:
الأول: إيران تدرك أن لا مصلحة لها بأيّ حرب في هذا التوقيت، كما أنها تدرك محاولة أعداءها جرّها إلى توقيت حربهم، فالحكمة السياسية والاستراتيجية التي تتمتع بها إيران، ترسم مساراً ناظماً لكلّ الردود بجانبيها السياسي والعسكري، وكذا الاستراتيجي بعيد المدى.
الثاني: تدرك واشنطن ومحورها بأنّ الحرب على إيران ستكون كارثية المضمون والأهداف، فالحرب على إيران لا تعني استهداف العمق الإيراني وربما تدمير منشآت نووية إيرانية، فالأمر لن يقتصر على سيناريو أحمق ستعتمده واشنطن، بل سيكون في مقابل ذلك مئات بل آلاف الصواريخ التي ستنطلق من طهران لتصل إلى كلّ القواعد الأميركية في المنطقة، بما في ذلك استهداف ممنهج لـ «إسرائيل».
ضمن ما سبق، بات واضحاً أنّ خيار الحرب غير مناسب لأحد سواء إيران أو الولايات المتحدة وحتى «إسرائيل»، فالثمن سيكون باهظاً ويؤرق الجميع، لكن بكلّ تأكيد فإنّ الأسابيع المقبلة ستجعل الجميع يتنفس الصعداء، فالاستهداف المباشر لرموز محور المقاومة سيستمرّ، وستستمرّ معه ردود إيران الاستراتيجية، والتي أيضاً سترهق أعداءها، فـ إيران كانت وستبقى تتمتع بحكمة سياسية وصبر استراتيجي لا يمكن لأحد أن يمسّ به.