طلال عوكل
كثيرون هم الذين أخطؤوا في قراءة مآلات «صفقة القرن»، وأكثرهم خطأ من يعتقدون، أن تلك الصفقة المشؤومة، قد فشلت واصطدمت بجدار الموقف الفلسطيني الصلب، ومواقف الدول العربية.
في الحقيقة، فإن الاستقالة التي عاد عنها سريعاً غرينبلات، لم تكن إلاّ مؤشراً كاذباً عن إمكانية توقف أو تراجع الإدارة الأميركية، ولم يكن، أيضاً، تخفيف التركيز الإعلامي في الفترة الأخيرة، مؤشراً على ذلك.
ربما راهنت الإدارة الأميركية على إمكانية أن تكون الصفقة، صفقة حقيقية بين أطرافها، لو أن الفلسطينيين استقبلوها بإيجابية، ولو أن بعض العرب المعنيين، نجحوا في إضفاء البعد الإقليمي عليها، والانخراط في تبادلية مصالح ومنافع تمنحها صفة الصفقة، غير أن غياب هذا البعد عنها، لا يعني دفنها وإلقاء التراب عليها.
منذ البداية، أشرنا مع آخرين، الى أن الموضوع ليس موضوع صفقة وإنما هو موضوع سياسة استراتيجية يسعى الحلف الأميركي الإسرائيلي إلى فرضها عبر اتخاذ العديد من المواقف التي يجري تكريسها على أرض الواقع. هذه السياسة، تتطابق تماماً وكلياً مع المخطط الصهيوني الأساسي الذي تنفذه السياسة الرسمية الإسرائيلية، ويوافق عليها أو يتواطأ معها معظم، إن لم يكن كل الأحزاب الصهيونية بغض النظر عن مسمياتها. لم يبق في المشهد السياسي الإسرائيلي ما يميز اليمين عن الوسط أو اليسار، فالكل يختار العربة التي يستقلها في القطار الذي يقوده اليمين الصهيوني المتطرف.
المخطط الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي لا يزال يمتلك دافعية وآليات التنفيذ دون الالتفات ولو للحظة، لكل ما يصدر عن الفلسطينيين أو العرب أو حتى عن المجتمع الدولي كهيئات جماعية ودول منفردة.
الإعلان الذي صدر عن وزير الخارجية الأميركية بومبيو، بشأن عدم اعتبار المستوطنات، مخالفة للقانون الدولي، وبالتالي فإنها شرعية، يشكل الحلقة الأخرى من حلقات المخطط الأميركي الإسرائيلي الذي بدأ بالقدس ثم اللاجئين، ثم إغلاق مكتب منظمة التحرير وقطع المساعدات، إلى إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لإعلان سيادتها على الجولان المحتل. نتنياهو الذي استقبل بالترحيب الإعلان الأميركي، اعتبره تصحيحا لخطأ تاريخي، ووعد بأن يعلن السيادة على الأغوار، التي ستحدد الحدود الشرقية لإسرائيل.
القرار الأميركي جاء في توقيت مدروس، لمساعدة بنيامين نتنياهو على فرض منطقه على الآخرين فيما يتعلق بتشكيل الحكومة، وتجاوز الاستعصاء القائم، وقبل يوم واحد فقط من انتهاء المهلة القانونية التي منحها الرئيس الإسرائيلي لبني غانتس لتشكيل حكومة.
في صباح اليوم التالي أي يوم أمس الأربعاء، كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف أهدافاً عديدة في دمشق ومحيطها، ما أدى إلى مقتل أحد عشر عنصراً قالت إسرائيل إنهم من الإيرانيين و»حزب الله» والنظام.
أراد نتنياهو استثمار ذلك، ليؤكد للإسرائيليين أنه رائد الإنجازات التاريخية الاستراتيجية، ورائد الردع، وتوفير الأمن للإسرائيليين، فإن نجح ذلك في إقناع منافسه بتشكيل حكومة تضمن له مستقبله السياسي، وتبعد عنه شبح التحقيقات ولوائح الاتهام كان بها، وإن لم تحقق ذلك فإنها ستؤدي إلى تحسين شعبيته في الانتخابات القادمة.
والآن أراهن، أن الإدارة الأميركية، ستعلن بعد وقت أنها تؤيد إقامة دولة فلسطينية بين ما تبقى من الضفة وغزة، وهو ما يرفضه الإسرائيليون، لكنها أي أميركا ستدّعي أنها تراعي مصالح الفلسطينيين وحاجتهم لكيان خاص بهم، وبالتالي فإنها لا تتصرف من موقع الانحياز الكامل والأعمى لإسرائيل.
في هذه الحالة سيرفض الفلسطينيون، لكن ذلك الرفض سيمنح إسرائيل ذريعة، لمواصلة تنفيذ مخططاتها التوسعية فيما تدعي أنها «يهودا والسامرة». إزاء ذلك لم يكن ثمة شك في أن إجماعاً دولياً، سيتشكل في اتجاه رفض الإعلان الأميركي، ونحو التأكيد على الموقف الذي يتطابق مع الشرعية والقانون الدولي الذي يعتبر الاستيطان مخالفاً وغير شرعي.
غير أن السؤال هو ما الذي يمكن أن يفعله المجتمع الدولي للضغط على الولايات المتحدة، أو على إسرائيل للتصرف على نحو مختلف؟
أمامنا نموذج يتعلق بمدى تأثير المجتمع الدولي على الموقف الأميركي الإسرائيلي من الوكالة الدولية لغوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا».
صحيح أن مئة وسبعين دولة صوتت لصالح تمديد التفويض الممنوح للوكالة الدولية، ولكن هذا الإجماع لم ينجح في أن يفرض التراجع على الولايات المتحدة، ولم ينجح، أيضاً، في معالجة الأزمات المالية التي تعاني منها هذه الوكالة التي بالكاد تستطيع القيام بالحد الأدنى من واجباتها، الأمر الذي سيضطرها إلى تقليص تلك الخدمات إلى ما هو أقل من الحد الأدنى.
يجتمع مجلس الأمن، ويناقش، في محاولة للتأكيد على قرارات الأمم المتحدة وآخرها قرار 2334، لكن الفيتو الأميركي موجود، وسيمنع صدور أي قرار أو بيان مخالف للسياسة الأميركية.
مع ذلك ثمة ما يمكن وينبغي عمله، على مستوى الأمم المتحدة ومؤسساتها، وربما على مستوى المحاكم الدولية، وهذا عمل سياسي ودبلوماسي وحقوقي سيقوم به الفلسطينيون. ولكن خطورة السياسة الأميركية الإسرائيلية باتت تستدعي تجاوز بيانات الاستنكار، والتوصيف، والتحذير من التداعيات، إلى اتخاذ المواقف العملية. إن خطورة السياسة الأميركية باتت تستدعي من القيادة الفلسطينية، الإعلان عن أن الولايات المتحدة هي العدو الأول للشعب الفلسطيني، وهي تاريخياً لم تكن غير ذلك، ويستتبع هذا الإعلان قرار بالإعلان عن إلغاء كل الاتفاقيات التي أبرمتها السلطة مع الولايات المتحدة، وهذه فاتحة عمل لجملة من السياسات والمواقف.