بقلم: د. محمد الهندي ..
أولاً: المقدمة:
فلسطين في مواجه المشروع الصهيوني، كانت، وبسبب هذا الصراع المفتوح الذي انخرط فيه كل مكونات واتجاهات المجتمع الفلسطيني بأشكال ونسب مختلفة، كانت ترتب أولياتها منذ مطلع القرن الماضي وفق متطلبات هذا الصراع، بغض النظر عن أي تباينات دينية أو فكرية أو سياسية.
_في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي برز قادة مسيحيون كبار على رأس فصائل فلسطينية تقاتل العدو دون أي حساسيات ، فيما أن أفكار إسلامية اجتاحت مصر في نفس الفترة تمثلت في جماعة المسلمين (اطلق عليهم جماعة التكفير والهجرة) لم تترك أي أثر على فلسطين المجاورة لأنها استبدلت الصراع مع العدو بالصراع الداخلي ..بل أكثر من ذلك فان تنظيما إسلاميا عريقا له تاريخ مشرف في التصدي للمشروع الصهيوني عام 1948 فقد دورة وتأثيره وانتشاره في فلسطين بسبب تأجيله الانخراط في قتال العدو ، ثم استعاد حضوره وقوته حال انخراطه في مواجه العدو.
اذن في حالة الحرب فإن قوانين الحرب تفرض نفسها عل الجميع، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ"، وفي آية أخرى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"، فكيف والحرب في فلسطين دائرة على مدار الوقت؟!
_نهاية عام 1979 غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان، ومع إغراء رفع راية الجهاد الأفغاني وشعار إقامة الدولة الإسلامية التي ستتكفل بحل مشاكل المسلمين، وفي مقدمتها العمل على تحرير فلسطين، لم يستجب الشعب الفلسطيني المسلم المتدين والذي يعاني ويلات الاحتلال لهذا المنطق، رغم غياب الراية الإسلامية عن فصائل المقاومة الفلسطينية، وكانت استجابته هامشية تمثلت بنشاط الشيخ عبد الله عزام -رحمه الله ، فيما جموع شباب العرب يتوجهون للقتال المقدس في أفغانستان! !
_في عقد الثمانينات من القرن الماضي، وعلى وقع الجهاد في أفغانستان، سطع نجم تنظيم القاعدة كتنظيم مقاتل ضد أمريكا والغرب و"الحكومات الكافرة" ، واستقطب هذا التنظيم آلاف الشباب المتحمس من جميع الأقطار الإسلامية وكثير من بلاد الغرب، ورغم أن الوعي الجمعي للشع الفلسطيني يعتبر أمريكا والغرب عموما هو السبب المباشر لإقامة "إسرائيل" وحمايتها وتسليحها وعدوانها، وأن "إسرائيل" جزء من النظام الغربي ، تعبر عن مصالحة وأهدافه في اخضاع المنطقة والسيطرة عليها ، إلا أن دعوة القاعدة لم تلقّ أي استجابة لدى الشعب الفلسطيني الذي انخرط في انتفاضة شعبية عارمة عام 1987 ، وبقيت فلسطين في معزل عن دعوة القاعدة ؛ باستثناء حوادث فردية ، في معظمها تعكس نشاطا استخباريا إسرائيليا في محاولة إيقاع وتصيد الشباب الفلسطيني المتحمس ٠
وهذا المنطق والسياق ينسحب أيضا على أفكار وتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" إلى حد كبير، رغم انتشارها في سيناء على حدود قطاع غزة.
_إن انتشار التيار السلفي والأفكار السلفية في فلسطين بقي محدودا ، ويحمل في مجملة مفاهيم معتدلة منسجمة مع الأخلاق الإسلامية، بمعنى الالتزام الديني والاقتداء بالسلف الصالح في مجال العبادات والمعاملات والأخلاق بعيدا عن التكفير ، وعندما برزت جماعات سلفية اتجهت نحو الانخراط في مقاومة "إسرائيل" ، وليس نحو تكفير ومعاداة المجتمع واعتزاله.
_بعد قرار حصار قطاع غزة وفرض العقاب الجماعي على أهله ، وتحويله إلى سجن كبير على مدار ما يزيد عن 12 عاما أمام سمع العالم وبصره، ومع وصول مستويات الفقر ونسب البطالة إلى مستوى غير مسبوق، كان من المتوقع أن ينمو في القطاع سلوك شاذ وأفكار متطرفة تشق طريقها بين المحتاجين والعاطلين عن العمل.
ان "إسرائيل" التي تتحمل المسؤولية الأولى عن هذا الحصار، أملت بتحقيق هدفين رئيسيين:
، الأول: تحميل المقاومة عامة وحماس خاصة المسؤولية عن تردي الأوضاع المعيشية، وبالتالي الانفجار الشعبي في وجه حماس، والكفر بالمقاومة عموما، وما يتبع ذلك من استسلام وخضوع وقبول بما يطرح من تصفية لما تبقى من القضية الفلسطينية، ومسايرة سياق الاستسلام مقابل تحسينات معيشية.
، والثاني: انتشار أفكار التطرف والتكفير والأمراض الاجتماعية، وما بتبع ذلك من تفكك النسيج المجتمعي والمجتمع عامة الذي هو حاضنة المقاومة، وبالتالي تشويه صورة الشعب الفلسطيني الذي يدافع عن أشرف وأعدل قضية في العالم، وتشويه مقاومته، وتصويره بأنه حاضنة للإرهاب لا تستحق أي تعاطف فضلا عن دولة مستقلة.
نستخلص من هذا التقديم، أننا في أتون معركة طويلة، متعددة الجوانب، واحد أهم جوانبها هو الوعي بأبعادها، وتشعباتها؛ ومخططات الأعداء فيها.
وعندما تدور مواجه بهذا المستوى فإن أي انحرافات في أفكار وسلوك بعض مجموعات الشباب، لا ينبغي أن تعالج أمنيا فقط، بل علاجها مسؤولية النخب الفلسطينية والعلماء على وجه الخصوص، وكذلك فإن أي سلوك شاذ، أو مظاهر فساد لفصائل المقاومة يجب أن تلاحق بنفس الجدية، لما له من آثار سلبية مضاعفة على تماسك المجتمع وقوته وقدرته على التضحية والمقاومة والثبات، فعقاب القدوة مضاعف ، "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ".
وإذا كانت مسيرات العودة نجحت في تفجير الاحتقان الشعبي لأهل غزة في وجه العدو، فإن هذا النجاح سيبقى مؤقتا ومحدودا، وربما يرتد عنفا داخليا إذا لم يصاحبه معالجة ومتابعة لأي انحراف في أفكار الشباب، وملاحقة لأي انحراف في سلوك قيادات وكوادر فصائل المقاومة.
ثانيا: كيف نفهم السلفية؟
إن المضمون الديني والتاريخي للسلفية، سواء على صعيد العقيدة والسلوك، أو كحركة إصلاحية فكرية واجتماعية وسياسية، تمثل في استلهام حقبة السلف الصالح، خاصة عصر الخلفاء الراشدين، وتوسع عند البعض ليشمل من صار على نهجهم دون التقيد بعصر محدد، وبذلك يمكن اعتبار جميع المصلحين عند مذهب أهل السنة وكذلك حركات الإصلاح سلفية بهذا المعنى، لأنهم جميعا رسموا صورة المستقبل الذي ينشدونه باستلهام سيرة السلف الصالح في سلوكهم وجهادهم وتجديدهم.
وبهذا المفهوم فنحن جميعا سلفيون، كما يشمل هذا المفهوم معظم زعماء مقاومة الاستعمار في البلاد العربية في العصر الحديث، من عمر المختار وبن باديس والابراهيمي والخطابي والقسام وغيرهم، فالسلفي رجلا مجددا يقاوم الواقع المتخلف الموروث، في نفس الوقت الذي يقاوم فيه الاستعمار والحكم الأجنبي للبلاد،
هذا هو مفهوم السلفية الحقيقي، وليس المفهوم المغرض الذي يتم ترويجه في هذه الأيام بأنها الماضوية والرجعية وإدارة الضهر للتحديث والاخذ بأساليب العصر وأدواته.
إن جميع الحركات السلفية التي عرفها التاريخ الإسلامي، كانت حركات تبحث عن حلول للواقع الإسلامي المعاش، وللحوادث المستجدة فيه، مستلهمة سيرة السلف الصالح، خاصة عصر الخلافة الراشدة، وهي بذلك كانت حركات تجديد وإصلاح تقاوم الانحراف، وتعيد توازن الأمة في إطار التجربة التاريخية للأمة الإسلامية.
اليوم واقع الأمة مختلف، فبعد أن كانت الأمة الإسلامية تقود العالم، وتملك الحضارة البشرية، تصنع أفكارها ووسائلها وأدواتها، وتتحكم في مسارها، ولا تواجه أي تهديدات خارجية جادة، أصبحت على هامش حضارة اليوم، لا تملك من أدواتها وأفكارها وتقنيتها وسلاحها شيئاً، يتحكم فيها الأعداء على كل المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والاجتماعية والثقافية والفكرية، في عملية تخريب وتشوية واستلاب واجتياح وتجريف، لم يشهد لها التاريخ مثيلا، وقد تحول كوكب الأرض بفعل وسائل التكنولوجيا والاتصال والتواصل الحديثة إلى قرية صغيرة، تتأثر أي بقعة فيها بما يجري في أي منطقة أخرى،
والحال هذه ما هو النموذج الذي يجب أن نستلهمه من السلف الصالح لاستنهاض الأمة وتحصينها من الاندثار؟
هل نستلهم واقع السلف كمجتمع مكتفي بذاته، منفتح فقط على شبة جزيرة العرب، لا يواجه أي تهديد خارجي جدي، ويملك وسائل وأدوات محدودة، لا يمكن مقارنتها مع وسائل العصر وأدواته وأفكاره، هل نذهب الى غزوة الخيل، كما حدث على حدود غزة قبل سنوات قليلة؟، أم نستلهم التجربة التاريخية للأمة، باعتبار السلف نموذج لفهم الواقع، وتحليل مراكز القوة فيه، وتطورها واتجاهاتها، وأدراك قضاياها المستجدة وتحديد وسائل وطرق علاجها؟
كل ذلك من موقع إيماننا العميق والاحتفاظ بتوازننا النفسي والروحي، وإدراك دورنا كمسلمين في امتلاك الحضارة الإسلامية وتوجيها الوجهة الصحيحة.
إن إحياء سيرة السلف الصالح، هي جعلها حية في حاضرنا، لتدشين فصل جديد من سيرة السلف الصالح، يمكن جيلنا من دخول العصر الحاضر وواقعنا بكل تحدياته ووقائعه، وتجعل من واقعنا فصلا صالحا تستلهمه الأجيال المقبلة في بناء سيرتها الخاصة.
ان عدم تمكن الاتجاه السلفي من القيام بالتجديد المطلوب في الفكر الإسلامي ليواكب تطور الواقع، ويستجيب لتحدياته يعتبر من العوامل المهمة التي تفتح باب للتطرف تحت عباءة التيار السلفي.
ثالثا: التطرف في الفكر والسلوك
في عقد السبعينيات من القرن الماضي، وأثناء دراستنا في مصر، طفت على سطح الأحداث جماعة المسلمين، أو ما أطلق عليها الأمن (جماعة التكفير والهجرة)، كردة فعل على عنف السلطة ضد جماعة الإخوان المسلمين في السجون المصرية، وكردة فعل أيضاً على غياب الديمقراطية السياسية - إن صح التعبير-، وغياب العدالة الاجتماعية،
استندت الجماعة إلى فهم معين لبعض نصوص الشهيد سيد قطب حول مفهوم المجتمع الجاهلي، ورغم تقوى وإخلاص أفراد هذه الجماعة، إلا أنهم اعتزلوا الحياة، بما فيها الحياة الدراسية بالجامعات، وصادفنا شبابا تركوا الدراسة في كلية الطب خوفا من الوظيفة في خدمة "النظام الكافر" بعد التخرج!؟
وبدل أن تثور الجماعة بزعامة شكري مصطفى، في وجه النظام فإنها اتجهت للخصومة مع التيار الإسلامي المعتدل للإخوان المسلمين ورمزه كتاب (دعاة لا قضاة) للمستشار حسن الهضيني، ومع الجماعة الإسلامية بالجامعات، تكفر من لا يستجيب لدعوتها، ويبايع قيادتها، مثلها في ذلك مثل كل حركات التطرف، التي توجه خصومتها للتيار الذي خرجت منه، وتعترض على اعتداله وتساهله.
الخوارج كانوا في صفوف الخليفة الراشد علي -عليه السلام-، وخرجوا معه ضد معاوية -رضي الله عنه -، وعندما تطرفوا اعتراضا على حادثة التحكيم، خرجوا على علي -عليه السلام- وقاتلوا ضده ثم اغتالوه ولم يذهبوا لقتال معاوية!
التطرف أعمى، ويعمي صاحبه، ويجعله ينظر إلى الأمور نظرة خيالية بعيدا عن الواقع، هذا من جانب الفرد، ومن جانب الجماعة فإنه بانعزال الجماعات المتطرفة وانغلاقها على نفسها، يرتد التطرف إليها، وتكرر التجربة ذاتها مع نفسها، فيعترض الأكثر تشددا على الأقل تشددا، وتنقسم الجماعة إلى جماعات تتنازع الامارة والولاءات، تخاصم بعضها بعضا، وتنتهي أخيرا إلى التفتت والاختفاء كما حدث مع تجربة التكفير في مصر، وكما حدث مع جميع حركات التطرف في التاريخ الإسلامي،
فلم يحدث أن جماعة متطرفة صنعت التاريخ، رغم تفاني أعضائها وشدتهم، فكان شعارهم الاستشهاد من أجل القضية، ولم يفكروا بتحقيق الأهداف وكيفية خدمة هذه القضية.
هروب إلى الأمام، مع نظرة سحرية للأمور، تختصر كل شيء وتعفي صاحبها من شر الدراسة والتحليل وفهم تعقيدات الواقع والاستجابة لها.
وأحيانا تغيير الاتجاه والولاء، لقد صادفت أشخاصا انتقلوا من الفكر السلفي التكفيري الى التشيع المتطرف.
إنه نمط من الوعي المزيف الذي ينسى معه الشخص دوره وطبيعة موقعه.
رابعا: ماذا يعني ان تكون سلفيا في فلسطين؟
حادث التفجير الأخير ضد نقاط شرطة المرور في قطاع غزة الشهر الماضي، كان حادثا صادماً بكل الأبعاد، شباب إسلامي في مقتبل العمر ينتمي لعائلات محافظة متدينة وفقيرة، أظهر تصميما على التضحية بالنفس وتفجيرها على حواجز شرطة يحرسها شباب إسلامي في مقتبل العمر من عائلات محافظة ومتدينة وفقيرة، مثلهم تماما، ربما يكونوا من أقربائهم، أو جيرانهم، ويصلون في نفس مساجدهم، ويدرسون في نفس مدارسهم، فيما العدو يعربد ويستبيح كل الحرمات والمقدسات والدماء على مدار الوقت، أي تطرف و جنون ممكن أن يعيد أكثر الصفحات قتامة في تاريخ الأمة؟ وأين؟ في فلسطين! التي كانت عصية دائما على كل تطرف!
شباب مسلمون بكل تأكيد هم ضد العدو وجرائمه، ولكنهم على استعداد لتفجير أنفسهم في شرطة المقاومة، وأين؟ في غزة المنكوبة المحاصرة، وربما بمبررات عدم تطبيق الشريعة، أو بعضا من مظاهر الفساد، هل هذا من السلف الصالح في شيء؟
هل هذه هي أولويات السلفية الحقة؟
عندما يجتاح العدو_ الذي لا لبس فيه،_ أرضهم ومقدساتهم ومسرى نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، أين هو حكم الجهاد في الإسلام الذي يصبح فرض عين في هذه الحالة؟
إن السلفي الحق يجب أن يكون وطنيا بحق، عندما يجتاح الأعداء الأرض ويعيثون فيها فسادا يصبح الدفاع عن الوطن جزء من عقيدة السلفي.
إن اندماج السلفية في حركة المقاومة الوطنية ضد العدو وتكاملها معها يحمي حركة المقاومة من الانحراف عن دين وتاريخ وثقافة وسلوك الأمة ويحمي السلفية من الانحراف عن مفهوم السلفية الحقة الذي حملة الصحابة والتابعين والعلماء ورموز الجهاد والمقاومة والفتوح على مدار تاريخ الأمة، ويفشل في نفس الوقت سعي العدو لتوظيف السلفية ضد الوطنية، وضد حركات المقاومة الإسلامية في محاولة لإكمال حلقة القهر والاذلال.
إننا ندعو لانخراط الحركة السلفية في فلسطين بكل توجهاتها في قتال العدو لتأخذ مكانها الطليعي في تصويب مسار الأمة كما كانت على مدار الوقت.
كتب/ د. محمد الهندي - رئيس الدائرة السياسية لحركة الجهاد الاسلامي في فلسطين