سري سمّور
تعهدت وإن شاء الله سأظل ملتزما بما تعهدت به، مذ بدأت كتابة هذه السلسلة قبل حوالي سنة، أن ألتزم بالموضوعية، وبقاعدة الاحترام للجميع وألا أبخس الناس أشياءهم، وفق الأمر القرآني...والحديث-للتذكير- يتمحور حول الثنائية القطبية فتح-حماس وعجز وفشل أي قوة أو فصيل آخر على كسرها، ومناقشة الأسباب ومجمل الحيثيات المتعلقة بهذه المسألة.
وقد يُفهم من الموضوعية جفاف العاطفة وجمود الطرح، وهذا محله دراسات وأبحاث وليس في كلام إنسان مثلي في هذا الموضع، فلقد تناهى إلى مسمعي أن رسالة ماجستير لا يقبل أن تحوي عبارات تتجاوز ما يوصف بالحيادية والموضوعية ومنهج البحث العلمي، وغير ذلك، ومن هذه العبارات مثلا (العدو الصهيوني) أما أنا فأترك هذا الحياد لأهله، مسلّما نفسي لوحي القلم دون خروج عن جوهر الفكرة وصلب الموضوع بطبيعة الحال.
(1)
حين أمسكت بالقلم لأخط مسودة هذه الكلمات قبل صف سطورها في برنامج محرر النصوص، ارتجفت يدي، وخفق قلبي؛ ذلك أن الكتابة عن هذا الموضوع سبقها شعور طاغ بالرهبة، واختلطت فيها ذكريات طفولة وفتوة شباب متدفق العاطفة، بريء المشاعر، حادٌّ في التصنيف، غير موارب في الإعلان عن اعتناق ما يراه عين الحق.
وألتمس المعذرة لأنه في حضرة الشهيد والشهادة لا مكان للحياد، ولا قدرة على البقاء في أسر طرح البيانات والمعلومات، والانحشار في(الرقمية) الموحشة للقلوب، بل المحاصِرة للعقول المتحررة، وركنها لنفس المرء في ضيق الدنيا وحصار الواقع.
(2)
لم أخطط أن يكون حديثي عن حركة الجهاد الإسلامي متزامنا مع احتفالات الحركة بانطلاقتها ومع اقتراب ذكرى استشهاد مؤسسها، ولكن هذا تقدير ساقه الله لي، دون جهد مني.
وتستوقفني وأنا أحاول كتابة مادة مجردة من الانفعالات والعواطف كلمات د. فتحي الشقاقي، وأستمع إلى تلك العبارات الصادقة منه، وأتخيل نصوصه المرقومة كيف ستكون بصوته المشبع بآلام الحنين واللجوء والإبعاد، وآمال العودة والحرية...مع التنويه أنني لست عضوا ولا حتى نصيرا لحركة الجهاد الإسلامي، ولكن لشهيدها المؤسس خاصة ولعديد من شهدائها عامة مكانة مميزة في قلبي.
(3)
حاليا، ربما حركة الجهاد الإسلامي، عموما، (قد) لا ترغب في الحديث عن بعض الأمور الماضية، وترى أنه من الأفضل تجاوزها، لاعتبارات مقدرة ومقبولة ومفهومة، ولكن هذا لا يناسب موضوع سلسلة المقالات هذه، ولا يستقيم مع كون أجيال من الحركة ومناصريها وخصومها ومراقبيها، عرفوا الحركة من خلال تلك الأمور، التي تشكل لبنة أساسية في تاريخ الحركة وتراثها الفكري والسياسي...وأيضا هذا لا يتلاءم مع ما ذكرته عن هجوم الذكريات على قلبي وعقلي، وخفقان قلبي.
وإذا قلت بأن حركة الجهاد الإسلامي هي حركة تشرينية/ أكتوبرية فأنا لا أجافي الحقيقة، فحركة الجهاد الإسلامي ليس ثمة موعد محدد لانطلاقتها التأسيسية كبيان أو إعلان إشهاري مثل فتح وحماس والجبهات، ولكنها اختارت ذكرى معركة الشجاعية في 6/10/1987م تاريخا للاحتفال بانطلاق عملها الجهادي داخل فلسطين، مع أن التأسيس سبق الموعد ببضع سنين، كما هو معروف، وكما سأوضح لاحقا.
وظلت الحركة تعتبر السادس من تشرين الأول تاريخ اندلاع شرارة انتفاضة الحجارة(الأولى) في 1987، وكانت تدعو للإضراب الشهري في اليوم السادس من كل شهر ميلادي حتى أواخر تلك الانتفاضة، بخلاف حماس و (ق.و.م) حيث كان الموعد والإضراب هو التاسع من كل شهر، باعتباره الموعد المحدد لاندلاع الانتفاضة(8+9/12/1987م).
وتشرين الأول/أكتوبر هو الشهر الذي اغتال فيه الموساد مؤسس الحركة الدكتور فتحي إبراهيم الشقاقي في مالطا في السادس والعشرين منه سنة 1995م...وقبل ذلك وأيضا تلك من عجائب الصدف بل التقديرات الربانية، وفي السادس من هذا الشهر؛ كانت ذكرى حرب رمضان وذكرى اغتيال أنور السادات(1981) في حادثة/واقعة المنصة المشهورة، وهو الحدث الذي للشقاقي معه وقفات حميمة، توحي بتأثر بالغ، وقد سطر بيراعة، ما سآتي عليه لاحقا بعون الله، وأنا شخصيا ربما عشرات المرات أراجع ما سطّره يراع الشهيد الشقاقي عن تلك الحادثة، والتي كانت مفصلية في حياته السياسية والشخصية أيضا.
(4)
من أين أبدأ حديثي عن الجهاد الإسلامي وبواعث تأسيس الحركة، والظروف المحيطة؟
الأفضل هو استعراض الفترة من نهاية السبعينيات حتى بواكير انتفاضة الحجارة، حيث أن تلك المرحلة شهدت بداية الصحوة الإسلامية ونهوض التيارات الإسلامية بتلاوين وأنماط متعددة، ورافقتها أحداث سياسية وميدانية مختلفة، وقد تأثرت فلسطين بتلك الأحداث أيما تأثر:-
- طار السادات إلى القدس وخطب في الكنيست، واتجه إلى نهج التسوية وطريق(السلام) مع الكيان العبري الذي تمخض عن اتفاقيات كامب ديفيد، وترك نهج المواجهة والحرب، التي كان هو من أعمدتها في 1973 وبهذا فإن النظام الرسمي العربي قد خرج عمليا وفعليا من حالة المواجهة العسكرية مع إسرائيل حتى الآن؛ مع أن ذلك النظام بأغلبيته قد جمّد عضوية مصر في الجامعة العربية، وانتقل مقر تلك الجامعة من القاهرة إلى تونس، وقطعت الدول العربية علاقاتها الرسمية مع مصر لسنوات، ولكن الحقيقة كانت ما قاله الشاعر العراقي أحمد مطر في قصيدة في بعض لافتاته الصاخبة:-
كلهم سوف يقولون له بُعدا...
ولكن بعد أن يبرد فينا الانفعال، سيقولون: تعال، وكفى الله السلاطين القتال!
إنني لا أعلم الغيب ولكن صدقوني ذلك الطربوش من ذاك العقال!
- وفي أواخر سبعينيات القرن الماضي أيضا اجتاح الجيش العرمرم الأحمر السوفياتي أفغانستان لدعم الحكم الشيوعي هناك، أو للوصول إلى المياه الدافئة لاحقا، وتمت مواجهة هذا الغزو بمقاومة من فصائل إسلامية عدة...هذا بغض النظر عن رغبة الأمريكان بتحويل أفغانستان إلى (فيتنام السوفييت) واستغلالها العمل الجهادي هناك لهذا الغرض، ولكن أثر الغزو ومقاومته وجدت أصداء وتفاعلات واسعة في عموم العالم الإسلامي.
- وبالتزامن اندلعت ثورة شعبية عارمة في إيران، أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي، واحتجز طلبة ثوريون طاقم السفارة الأمريكية في طهران، وانتقلت البلاد إلى نظام الجمهورية الإسلامية بقيادة الخميني الذي عاد من منفاه، ولاحقا اندلعت حرب بين النظام الجديد مع نظام صدام حسين في العراق استمرت بضع سنين...و أيضا كان للثورة الإيرانية بالغ(ولربما أبلغ) الأثر في فكر ونفس الشقاقي.
- مظاهر الالتزام بالدين والاهتمام بالشعائر تتزايد في المجتمع، فلم يعد المسجد مكانا لكبار السن، بل صار أغلب روّاده من الشباب، والذين نظموا أنشطة مختلفة كالإفطارات الجماعية والأعمال التطوعية، وأفرزوا نوادي رياضية وفرق نشيد، ولبست أعداد متضاعفة من النساء المناديل والجلابيب، وأفرز التيار الإسلامي كتلا طلابية تنافس نظيرتها التابعة لـ(م.ت.ف) في الجامعات الفلسطينية وتفوز عليها أحيانا(كما حصل في جامعة النجاح أوائل الثمانينيات) وشملت تلك المظاهر الضفة الغربية وقطاع غزة وأيضا مناطق فلسطين المحتلة في الداخل كأم الفحم وكفر قاسم...كان واضحا أن هناك شيء جديد يكبر وينمو اجتماعيا ولكنه لم يتبلور في صيغة سياسية واضحة المعالم حتى حين.
(5)
درس فتحي الشقاقي في كلية الطب في جامعة الزقازيق المصرية (1974-1981م) وتأثر بكل تلك الأجواء في الإقليم التي كان لها دور في بلورته لأفكاره وصياغتها كي تتحول لاحقا إلى تنظيم سياسي-عسكري مكتمل الأركان، وقد كان الشقاقي، يكتب بأسماء مستعارة أشهرها(عز الدين الفارس) في مجلة (المختار الإسلامي) والتي وجدت أعدادها طريقها إلى فلسطين، كل فلسطين، وتلقفتها أيدي الشباب المتعطش لطرح ثوري جديد، في المساجد والجامعات وسائر المحافل.
وكان الشقاقي يؤثر ويتأثر بزملائه وأصدقائه سواء مصريين أو فلسطينيين، وخاض معهم حوارات فكرية وسياسية مطولة كان لها الأثر في إثراء فكره وتوسعة مداركه، حتى وصل إلى نتيجة ملخصها ثلاث كلمات: الإسلام- الجهاد-فلسطين، وعن فلسطين التي عاد إليها هاربا من أمر باعتقاله بعيد اغتيال السادات، رأى أنها تعيش حالة (إسلاميون بلا فلسطين.. وفلسطينيون بلا إسلام)...من هنا جاءت فكرة تأسيس الحركة الجديدة في فلسطين: الجهاد الإسلامي.
وعن الشقاقي والجهاد الإسلامي سأتحدث بتوسع أكثر في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.