مشهد لشابّة أو امرأة ممدّدة على قارعة الطريق مع دماء نازفة من رأسها على الأرض. صار المنظر "اعتيادياً" منذ خريف 2015، وتحوّلت ضحاياه من النساء والفتيات، مثل غيرهن من التلاميذ والشبّان إلى قائمة إحصائية متنامية لا تستوقف الإعلام حول العالم. إنهم ضحايا الإعدامات الميدانية التي تقترفها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق فلسطينيات وفلسطينيين عند حواجز الإذلال والقتل المنتشرة في أرجاء الضفة الغربية وشرق القدس.
لا تنتهي مأساة هؤلاء الضحايا بالمسارعة إلى إطلاق رصاصات قاتلة عليهم، فأجسادهم تبقى ممدّدة فترة من الزمن مع خيوط الدم النازفة منهم، وهي فرصة للجنود لارتشاف القهوة ومتابعة أعمالهم الاعتيادية بعد "تحييد" خطر مزعوم. يتداول الجمهور صوراً ومقاطع تُظهِر أنّ جنود الجيش وعناصر الشرطة التابعين لقوات الاحتلال يُسارعون في هذه الحالات إلى تحريك أصابعهم برشاقة لإطلاق النار تباعاً، والإجهاز القاتل على "الهدف"، الذي قد يكون صبيّة في عمر بناتهم أو سيدة في سنّ أمّهاتهم. والجانب الآخر من المأساة أنّ الإعلان عن اسم الضحية الجديدة يتأخّر ساعات وربما أياماً، بما يتسبّب بضغوط نفسية هائلة على المجتمع المحلي. في حالة السيدة الفلسطينية نايفة كعابنة (50 عاماً) التي قتلها جنود الاحتلال يوم 18 سبتمبر/ أيلول 2019 في مشهد مأساوي؛ تمّ إبلاغ الجانب الفلسطيني باسمها بعد أربعة أيام من إعدامها ميدانياً عند حاجز قلنديا شمال القدس برصاصات تُركَت بعدها ممدّدة أرضاً وهي مضرجة بدمائها مدة من الزمن.
لفهم ما جرى مع الضحية الفلسطينية نايفة التي ظلّت صورها حاضرة بلا اسم في الإعلام أيّاماً عدّة، يَجدُر فحص سلسلة من الوقائع المشابهة التي جرت عبر أربع سنوات سبقت ذلك، وهي مرحلة دخلت فيها الإعدامات الميدانية على هذا النحو موجة تصعيد ملحوظة.
بدأت هذه المرحلة مع الفتاة الفلسطينية هديل الهشلمون، التي كانت تجتاز حاجزاً لجيش الاحتلال في الخليل في الثاني والعشرين من سبتمبر/ أيلول 2015، عندما أُطلِق النار عليها في واقعة إعدام ميداني توالت مثيلاتها من بعد. ادّعت رواية الاحتلال أنّ ابنة الثامنة عشر لم تمتثل لأمر بالتوقّف وأنها كانت تشكِّل بالتالي خطراً على حياة الجنود.
كانت هديل في سنتها الجامعية الأولى، وهي معروفة في أحياء مدينة الخليل بتواصلها التضامني مع أسر فلسطينية متضرِّرة من مضايقات المستوطنين، فكانت تضطر إلى اجتياز حواجز الاحتلال بصفة متكرِّرة لهذا الغرض. يوم الاعتداء القاتل عليها؛ أمرها جنديان بالتوقف ثم أطلقا عشر رصاصات على الأقل من بندقيّتين آليّتين. سقطت هديل بالرصاصة الأولى أرضاً، لكنّ عنصرَيْ الجيْش واصلا إطلاق النار، واستقرّت معظم الرصاصات في صدرها ونصفها العلوي.
زعم جيش الاحتلال فوراً وكما هو معتاد، أنّ الشابة حاولت مهاجمة الجيش بسكين، وأنّ جنوده تصّرفوا "حسب الأنظمة" بناء على خطر على حياتهم. ثم وردت صور عدّة تكشف زيف التبرير الإسرائيلي المعهود وحقيقة الجريمة البشعة التي وثّقها أحد المارّة وكان على مقربة من الموقع. اتّضح أنّ الجنديين أطلقا صليات الرصاص على الفتاة من على مسافة أربعة أمتار، ولم تظهر أيّ سكين، وما فاقم منسوب الوحشية في قتلها أنها تُرِكت ممدّدة نحو نصف ساعة بعد الإجهاز عليها. ثمّ روت الصحافية عاميرة هاس في "هآرتس" بتاريخ 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 تفاصيل الجريمة استناداً إلى معطيات توثيقية بما يفنِّد رواية الجيش.
حملت أسرة هديل الهشلمون قضيّتها إلى المحاكم، لكنّ المنظومة القضائية الإسرائيلية ضمنت تبرئة جيش الاحتلال وجنوده كما يحدث عادة، وتقدّمت الأسرة باستئناف دون تغيير النتائج، فتم إغلاق ملف القضية في فبراير/ شباط 2019 بإخلاء ساحة الجنود من أيّ جُرم. لا مفاجأة بالطبع هذه المرّة أيضاً، فقد تمّ اعتماد رواية جيش الاحتلال كما هي.
تجاهَل العالم مأساة الفتاة هديل الهشلمون في حينها، بما أغرى سلطات الاحتلال بالتمادي في سلوك الإعدامات الميدانية بذريعة أنّ الضحايا "يشكِّلون خطراً على حياة الجنود".
صار القتل بهذه الطريقة تقليداً متكرِّراً يحتمي بذرائع منسوجة بعناية. لكنّ فكرة تشكيل خطر على حياة مجموعة من الجنود بسكين فاكهة تلمع من بعيد في يد تلميذة مدرسة لا تبدو منطقية تماماً، كما أنّ المسارعة إلى إطلاق رصاصات متكرِّرة نحو فتاة أو سيدة أو صبيّ بإصابات تهدف إلى القتل الفوري؛ تشير إلى القيمة التي يراها الجنود الإسرائيليون لحياة الفلسطينيين عموماً.
لا مصداقية لرواية الاحتلال الرسمية بشأن الإعدامات الميدانية. إنّ ذرائع القتل الميداني النمطية التي تبرِّر بها قوات الاحتلال ما تقترفه؛ تعني ببساطة أنّه يمكن الإجهاز عليك بوابل من الرصاصات القاتلة إنْ كنتَ فلسطينياً وواصَلت سيْرك لسبب ما عند واحد من مئات الحواجز العسكرية الإسرائيلية المُقامة في الضفة الغربية والقدس، أو إن صدر منك "سلوك غير اعتيادي"، وهو تعبير انطباعي فضفاض للغاية. يُشكِّل هذا الواقع خطراً مضاعفاً على الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية أو البصرية، أو الذين لا يفهمون إشارات وصيْحات تصدر عن عناصر الجيش والشرطة في موقع القتل المفتوح، خاصة مع اختلاف اللغة وأساليب التعبير. وتبقى حواجز الاحتلال المغروسة بكثافة في مسارات الحياة اليومية الفلسطينية تهديداً فائقاً للأشخاص ذوي الإعاقة العقلية أو الذين يعانون من متلازمات تؤثِّر على قدراتهم الذهنية والتواصلية. وإن انتابت المرء نوبة تشنّج أو لحظة فزع في مواقع كهذه، فالثمن هو حياته.
مع وفرة هذه الوقائع تتأكّد القناعة في المجتمع الفلسطيني المحلي بأنّ قوات الاحتلال لا تتردّد في تبرير أي إعدام ميداني يقترفه جنودها أو عناصر شرطتها بمزاعم سهلة عن سلوك غير اعتيادي، كما أنّ القتلة لن يعجزوا عن وضع سكين إلى جانب الضحية الممدّدة أرضاً لفرض روايتهم الساذجة. لكن حتى في الحالات التي تحمل فيها فتاة في سنّ المدرسة سكيناً لمهاجمة الجنود المدرّبين بعناية؛ يبدو اللجوء إلى إطلاق وابل من الرصاص القاتل عليها من مسافة بعيدة تعبيراً عن ردّ غير متناسب. إنّ قائمة الضحايا واضحة في هذا الشأن؛ فعشرات الفلسطينيات من أعمار عدّة تم قتلهنّ عند الحواجز في سنوات معدودات، لكن كم جندياً قتلته إحداهنّ خلال ذلك الخطر المزعوم؟ النتيجة تساوي صفراً.
المؤكد في كل الأحوال أنّ قوات الاحتلال الإسرائيلي تستسهل قتل الفلسطينيين والفلسطينيات على أرضهم، وأنها توفِّر الذرائع الدعائية والغطاء القانوني للتستّر على ذلك وتبريره. والحقيقة الجوهرية التي تغيب عن الدعاية الإسرائيلية أنّ القتلة الذين فتكوا بعشرات الفلسطينيين والفلسطينيات في إعدامات ميدانية متتابعة في أنحاء الضفة الغربية والقدس خلال السنوات الأخيرة؛ هم في الواقع محتلّون ومنتهكون للقانون الدولي، أمّا الضحايا فهم أهل البلاد الواقعون تحت احتلال عسكري واضطهاد مزمن.
إنّ الإعدامات الميدانية هي من "المظاهر السيادية" التي تحتكرها قوات الاحتلال عند حواجزها الكثيرة التي تعرقل الحياة اليومية للفلسطينيين في أرجاء الضفة والقدس. إنها حواجز لإعاقة الحركة وممارسة الإذلال وتنفيذ الاعتقالات؛ وهي بؤر للقتل أيضاً. دفعت هذه الانتهاكات المركّبة عدداً من الإسرائيليين المناهضين للاحتلال قبل سنوات إلى تشكيل جماعة حقوقية مختصّة برصد ما تقترفه القوات الإسرائيلية عند الحواجز، تحمل اسم "محسوم ووتش"، (محسوم بالعبرية بمعنى حاجز)، لكنّ حكومة الاحتلال منهمكة في التعتيم على الحقيقة من خلال التضييق على هذه الجماعات الحقوقية ووصمها بـ"العمل ضد الدولة"، والتشهير بها في المجتمع.
قبل محاولة تصديق الذرائع التي تُصِرّ عليها دعاية الاحتلال الإسرائيلي من أنّ أعمال القتل المتكررة هذه بحق فلسطينيات وفلسطينيين عند الحواجز تقع بسبب وجود "خطر على حياة الجنود"؛ ينبغي - بالأحرى - الإقرار بأنّ وجود قوات الاحتلال على أراضي الفلسطينيين ونشر عناصر مسلّحة في مسالك حياتهم اليومية يشكِّل خطراً مؤكداً على الفلسطينيين وتهديداً مباشراً لهم.
لا يمكن لأي قوّة احتلال واضطهاد أن تتوقّع من شعب تحرمه حريّته واستقلاله وتسيطر على أرضه وموارده؛ أن يوزِّع باقات الزهور على جنود يمارسون الإذلال والتنكيل والقتل عند الحواجز العسكرية وفي الأرجاء عموماً. فالاحتلال يستثير غضب أجيال الفلسطينيين ويحرِّضهم بالتالي على محاولة التصدِّي له؛ بأدوات بدائية عاجزة. إنّ تلاميذ المدارس الذين قتلتهم قوات الاحتلال بالعشرات عند الحواجز شاهدوا بأعينهم ما يقترفه جيش الاحتلال من قتل واعتداءات واعتقالات تعسفية وأعمال ترويع وإذلال بحق شعبهم؛ وربما بحق أفراد من أسرهم أيضاً.
إنّ تجاهل الإعدامات الميدانية التي جرت حتى الآن يشجِّع جنود الاحتلال الإسرائيلي على تحريك أصابعهم الرشيقة لأجل صناعة المشهد ذاته كل عدّة أيّام؛ لفلسطينية ممدّدة أرضاً مع بقع الدم، أو لتلميذ يسقط صريعاً في طريق مدرسته، بمبرِّر جاهز مسبقاً تدفع به الرواية الدعائية المتكرِّرة كمحفوظات نمطية. بين هديل الهشلمون ونايفة كعابنة سيل ممتدّ من الدم المسفوح على الأرض في فلسطين، وهو يواصل طريقه مع مزيد من الضحايا الذين لا يكترث بهم العالم.