تطلّ على الوطن العربي ذكرى أم الهزائم بما تبقى من آثارها وتداعياتها وهو كثير ومعاش، وتجدر الإشارة إلى أن هناك رغبة متعمدّة في طمس الذاكرة العربية والدفع بالناس في هذا الوطن العربي إلى فقدان ذاكرتهم في محاولة هادفة من شأنها أن تجعلهم يتعايشون مع هزائمهم وكأنها جزء لا يتجزأ من حياتهم دون أن يتساءلوا عمّن صنع الهزيمة الأولى،
من كان وراءها، ومن خطط لها، وبالتأكيد ليست الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الكيان الصهيوني هما وحدهما من حرّض وخطط ونفّذ، ولا الدول الاستعمارية المتواطئة والمتورطة أيضاً، هناك قوى عربية أسهمت وحرّضت وموّلت العدوان وكان لها دورها غير المنظور في الترتيب للهزيمة التي ما يزال الوطن العربي يلعق جراحها حتى اليوم، وكانت هي من فتح الباب واسعاً للتراجعات والانكسارات والخذلان، ولا ينكر أحد أن مصر وسوريا حاولت بعد الهزيمة وحاولت معها أقطار عربية أخرى القيام بسلسلة من الانتصارات إلاّ أن حجم الهزيمة كان أكبر من أن تخفف من هوله تلك الانتصارات أو تقلل من أثره العالق في النفوس، ولقد تكاملت النكبة بالنكسة ثم توجهما الصلح المنفرد فإذا "القضية المقدسة" تفتقد أهلها الذاهبين وعيونهم مفتوحة إلى هاوية بلا قعر، خصوصاً وقد بات العديد من الدول العربية، التي كانت تتبدى متماسكة البنيان، يعيش في ظلال حرب أهلية معلنة أو مضمرة يجري الإعداد لها على مدار الساعة من قبل القوى الامبريالية والصهيونية والرجعية والقوى الإرهابيه التكفيرية التي ترتكب فظاعة على الأرض العربية من أجل إعادة رسم حدود الدول والمناطق وتوزيعها إلى دويلات إثنية وطائفية ومذهبية متناحرة تتآكل فيما بينها ما يعزز السيطرة الأميركية ويحفظ وجود "إسرائيل" ودورها في المنطقة كجزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير، حيث تبدو المنطقة حبلى بأحداث مصيرية من شأنها أن تبدّل في خرائط الكيانات بحيث تتصاغر نكبة ونكسة فلسطين وسـط "النكبات والنكسات" الدموية التي نعيشها وسوف نعيشها في العديد من الأقطار العربية، بينما دول الجوار الفلسطيني تتبدى متصدعة البنيان مهددة في وحدة شعوبها كما في وحدة كياناتها السياسية.
ولابد هنا من الاعتراف بأن أسوأ ما تركته النكسة أو الهزيمة هو ذلك الشعور المريض الناتج عن فقدان المواطن العربي قدرته على الانتماء، وما تركته هذه الحالة من ضعف يتزايد يوماً بعد يوم تجاه الهوية العربية، وكان بعض المتابعين باهتمام للشأن العربي يدركون أن ذلك الشعور مؤقت، لكن الأيام أثبتت أنه أخذ يتأصل لتحلّ محله حرب تحت شعارات خالية من الحرية والديمقراطية والكرامة الوطنيه والعدالة الاجتماعية، بينما الشعب الفلسطيني يرفض محاولات التهجير إلى مناف جديدة ولن تكون وجهته من سورية إلا لفلسطين مندداً باعتداءات وجرائم المجموعات الإرهابية المسلحة التي استباحت مخيم اليرموك وتستبيح الأراضي السورية والعراقية.
ومن هنا نقف أمام ذكرى أليمة في تاريخ الشعب الفلسطيني والعربي، ذكرى نكسة حزيران والتي شكلت حالة من الانهيار والتراجع للنظام الرسمي العربي، وفي هذا السياق، نشير إلى أن النكسة شكلت ضربة للمشروع القومي العربي، فهي هزيمة عسكرية أمام "إسرائيل" في عام 1967، ولكن كان الرد الواضح على النكسة كان في معركة الكرامة البطولية التي شكلت نموذجاً لإرادة المقاتل الفلسطيني والعربي، حيث أعادت الاهتمام إلى القضية الفلسطينية كقضية العرب الأولى وجوهر الصراع العربي الإسرائيلي.
وأمام ذلك أراد الشعب العربي الفلسطيني بصموده وعطائه ونضاله مواصلة مسيرة الكفاح رغم كافة المؤامرات والمشاريع التي كانت تستهدف تصفية القضية الفلسطينية وتبديد حقوق الشعب الفلسطيني وذلك من خلال العمليات البطولية لابطال الفصائل الفلسطينية فكان الصمود الفلسطيني اللبناني في التصدي للاجتياحات الصهيونية عام 1972 وعام 1978، وبعد هذا الاجتياح لجنوب لبنان وصمود القوات المشتركة، كانت هزيمة سياسية للعرب عبر توقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 التي تمثلت في إقرار مشروعية الوجود الصهيوني في فلسطين ووضع مبدأ الصلح المنفرد مع "إسرائيل". وأمام كل ذلك جاء اجتياح العدو الصهيوني للبنان عام 1982، وصمود القوات المشتركة الفلسطينية اللبنانية في عاصمة لبنان بيروت، بيروت وحدها بإمكانها أن تحكي عن مراحل صمودها ومقاومتها فحجارة أبنيتها لا تزال تصدح بقصص أبطالها الذين انتفضوا بوجه المحتل رفضاً لتدنيس مدينتهم.
إن صمود بيروت عام 1982 بمواجهة مع الاحتلال الصهيوني كتبت بدماء وعطاءات الشهداء الذين حوّلوا النكسة إلى انتصار، وهنا عندما نقف أمام ذكرى النكسة التي تتزامن مع ذكرى اجتياح العام 1982، نؤكد بأن مقاتلي الثورة والحركة الوطنية اللبنانية والجيش العربي السوري كتبوا صفحات المجد من خلال مقاومتهم البطولية على مدار مئة يوم، وبعد خروج مقاتلي الثورة الفلسطينية من بيروت إلى العديد من الدول العربية، كانت بيروت تنتفض وتبدأ المقاومة في كورنيش المزرعة وشارع سليم سلام والحمرا، ما دفع بالاحتلال إلى أن يغادر العاصمة خلال أقل من 72 ساعة على دخوله بالرغم من كل قصفه واعتداءاته وبالرغم من مجزرة صبرا وشاتيلا ومن كل شيء.
لذلك رغم الصمود والعطاء والتضحيات، ما زالت المخططات الساعية إلى استئصال وشطب قضية اللاجئين الفلسطينيين لم تتوقف أبداً عبر التعاون المتواصل بين القوى الاستعمارية والإمبريالية والحركة الصهيونية والقوى العربية الرجعية، عبر العديد من المشاريع الهادفة إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين، وتصفية الحقوق التاريخية.
وفي ظل هذا الواقع، فلم يعد من الممكن أو الجائز أو المقبول، أن يستمر البعض في التمسك بنهج المفاوضات سبيلاً وحيداً، فكما قبرت ودفنت "إسرائيل" مبادرة "السلام" العربية ومن قبلها خارطة الطريق، وبموافقة أمريكية واضحة وصريحة، علينا أن نؤكد بشكل واضح وصريح أن المفاوضات كخيار ونهج وثقافة قد سقطت إلى غير رجعة، وعلينا أن ندرك أن تجارب كل الشعوب وعبر مرّ العصور، آمنت بفكر ونهج المقاومة بمختلف أشكالها نحو الحرية والإستقلال، وهي لم تفني الشعوب في يوم من الأيام، فلا الجزائر التي دفعت مليون شهيد فنيت وأبيد شعبها، ولا الإتحاد السوفياتي من قبلها ولا الثورة الفيتنامية من بعدها، ولا المقاومة الوطنية اللبنانية، ولا أظن الشعب الفلسطيني، الذي دفع وما زال يدفع ثمن حريته واستقلاله وصموده عشرات الآلاف من الشهداء، أقل ثورية من تلك الشعوب، بل لديه من التجارب والخبرات في الكفاح والنضال الشيء الكثير، ولهذا يجب أن نتمسك بالمقاومة الشعبية بكافة أشكالها ونتمسك بموقف فلسطيني موحد بنقل ملف القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة والتي من خلالها تتم العملية السياسية والتفاوضية، التي يجب أن تستند إلى مرجعية سياسية ودوليه محددتين، وبحيث يكون لها صفة الإلزام والتنفيذ، والمرجعية وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية.
إن الصراع مع الاحتلال هو صراع وجود وليس صراع حدود لم يتوقف لأنه صراع عربي / إسرائيلي بالدرجة الأولى، ولكن ضعف حركات التحرر العربية عزز مراكمة عوامل القوة والصلف والعدوانية في دولة العدو الصهيوني، ما يعني أن استمرار تبعية وتخلف واستبداد أغلبية النظام العربي الرسمي وخضوعه لشروط التحالف الأمريكي الصهيوني، يشكل السبب الرئيسي الأول في هذه المعادلة التي استمرت منذ أكثر من ثمانية وأربعين عاماً، ونحن اليوم نتطلع إلى استعادة الروح القومية الثورية في الصراع مع هذا العدو، انطلاقاً من اقتناع كل أطراف حركة التحرر العربية والفلسطينية بأن شعوبنا العربية عموماً، وشعبنا الفلسطيني خصوصاً، لن يحقق الانتصار ويحسم الصراع مع العدو الصهيوني إلا عبر استمرار النضال بكافة أشكاله بعيداً عن كل مظاهر وأشكال الخضوع والتبعية، بما سيؤدي حتماً إلى بداية النهاية والانتصار على دولة الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس وضمان حق العودة للشعب الفلسطيني إلى دياره وممتلكاته وفق القرار الأممي 194.
إن مشاعل الحرية والعودة الذين شكلوا قبل أربعة أعوام نقطة تحول في مسيرة الصراع، تتطلب من الجميع بأن نحول هذه التضحيات لشعلة نضال لن تنطفئ ولن تتوقف مهما تزايدت عدوانية دولة الاحتلال، ومهما تزايدت المخططات والمحاولات الأمريكية الصهيونية التي تتوهم بانهاء القضية الفلسطينية وتصفية حق العودة للاجئين الفلسطينيين وشطب هويتنا الوطنية أو وقف نضال شعبنا الوطني، حتى تحقيق أهداف شعبنا في الحرية وتقرير المصير والعودة.
وغني عن القول في ذكرى النكسة إذا كان البعض متمسك بحالة الانقسام ويرفض تنفيذ اتفاق المصالحة من أجل إقامة دويلة غزة على أنقاض الشعب الفلسطيني فهو واهم، وعليه العودة إلى الاجماع الوطني والمشروع الوطني والتمسك بالأهداف الوطنية التاريخية، والنضال من أجل تفعيل م.ت.ف وفق رؤية وطنية، وهي مهمة عاجلة ورئيسية تقع على عاتق كافة القوى الوطنية، لأن استمرار هذا الانقسام الفلسطيني، سيزيد من شراسة الاحتلال وجرائمه ضد شعبنا وقضيته الوطنية.
ختاماً: إن الخامس من حزيران يعيد إلى الأذهان ذكرى مؤلمة ألقت بظلالها القاتمة على الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وتعدت آثارها وتداعياتها الوطن العربي لتشمل المنطقة والعالم بأسره، فقد أحدثت هزيمة حزيران عام 1967 تحولاً جوهرياً في المنطقة بكاملها، وزادت من حدة الصراع مع المشروع الصهيوني الاستيطاني، وأضافت إلى نكبة الشعب العربي التي بدأت عام 1948 أبعاداً ووقائع جديدة، ووضعت الشعب العربي أمام تحديات جديدة استطاع وما زال يواجهها بقوة عزيمته وصلابة، وعلينا العمل من أجل تصليب الوضع الداخلي الفلسطيني، كل ذلك من شأنه أن يشكل عوامل قوة للموقف الفلسطيني، في مواجهة الصلف والعنجهية الأمريكية والإسرائيلية، والتي تكشف يوماً بعد يوم عن حقيقة نواياها ووجهها القبيح وعداءها لكل ما هو فلسطيني وعربي.