الوضع العالمي يواجه أزمات حادة في ما بين الدول الكبرى. فثمة حرب تجارية بين أمريكا والصين، إلى جانب حشود عسكرية في بحر الصين. وثمة سباق تسلح، على أعلى مستوى، بين أمريكا وروسيا، فضلاً عن مواجهات سياسية في أوروبا وأمريكا اللاتينية، ولا سيما في أوكرانيا وسوريا. وثمة تأزم تلوح منه رائحة مواجهات حامية بين باكستان والهند بسبب قضية كشمير.
تأزّم هو الأخطر
والأهم ثمة تأزم في منطقتنا بين إيران والمقاومات من جهة، وأمريكا والكيان الصهيوني من جهة ثانية. وهذا التأزم هو الأخطر، في الوقت الراهن، من بين الأزمات الأخرى آنفة الذكر. الأخطر بمعنى مستوى الإشتباك والمواجهة، كما من ناحية ما يمكن أن يؤول إليه في الأسابيع والأشهر المقبلة، أو في السنتين بعد 2020. ولعل الضربة العسكرية التي وجهت إلى "أرامكو" في السعودية تؤكد هذا البُعد من التأزم الأخطر المشار إليه.
إذا ما استمر الحصار على أشده، وما يعنيه من حرب اقتصادية فسيقود العالم، بالضرورة، إلى فوضى كما تؤشر ضربة "أرامكو"، وما قد يزيد، أو إلى الحرب الأخرى.
إن ضربة "أرامكو" تبنتها القيادة الحوثية، ووضعتها في إطار الرد على العدوان السعودي على اليمن، فيما أصرت أمريكا على اتهام إيران بها، سواء انطلقت من العراق أم من إيران. وذلك من دون إقامة دليل قوي على هذا الاتهام. مما يؤشر إلى أن الأزمة بين أمريكا وإيران تتقدم على كل الأزمات الأخرى بالنسبة إلى أمريكا.
ضربة "أرامكو" تتعدى حدود السعودية لتصبح ذات أثر عالمي، بدليل ارتفاع أسعار النفط، بأكثر من عشر دولارات للبرميل، ولا يُغيّر من هذا الأثر تلافي أضراره في المرحلة الراهنة. وقد اعتبر البنتاغون ضرورة أن يُرد عليها بضربة أقوى، فيما راح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يؤكد بأنه لا يريد الحرب، ولا يريد أن يذهب إلى الحرب. وزاد على تصريحه بأنه "لا يحارب من أجل السعودية". ولكنه مستعد "لمساعدتها إذا حاربت" ولكن مقابل دفع الثمن عداً ونقداً. وهو ما ترك الموقف السعودي عملياً في "حيص بيص"، والموقف الأمريكي بين بين. فالإشكال في بداية تداعياته.
على أن الموقف السعودي هنا يظل في الدرجة الثالثة أو الرابعة من حيث الأهمية، أو من حيث التأثير في مجريات الأحداث. لأن الموقف الأمريكي هو الذي يحظى بالدرجة الأولى من حيث التأثير في مجريات الأحداث. ولكنه لم يتبلور حتى الآن. وذلك بالرغم من أهمية ضربة "أرامكو" ومغزاها، وما قد يأتي بعدها. فالكرة في الملعب الأمريكي.
وسيترتب على الرد، أو عدم الرد، الشيء الكثير في ما يتعلق بجوهر الأزمة التي أُشيرَ إليها.
جوهر الأزمة
ولهذا يجب أن يُعاد التذكير والتشديد على جوهر الأزمة. لكي يبقى حاضراً مع تناقض التصريحات، وما قد تحمله الأحداث من تفاصيل قد تطغى على ذلك الجوهر. فما هو؟
لقد تبين مؤخراً أن تغيّراً ملموساً قد حدث في ميزان القوى بين الكيان الصهيوني من جهة، وإيران والمقاومتين في لبنان وقطاع غزة من جهة أخرى. الأمر الذي هز هزاً قوياً استراتيجية التفوق العسكري للكيان الصهيوني على كل الدول العربية، وحتى على إيران وتركيا عموماً. ولهذا فإن ما تملكه إيران من صواريخ بالستية، وتكنولوجيا عسكرية، وما وصلته من تطور علمي وتقني في المجال النووي، أصبح مهدِّداً فعلاً لذاك التفوق العسكري الصهيوني الذي دام عشرات السنين. ثم تعزز ذلك بما امتلكته ترسانة حزب الله من صواريخ وقدرات عسكرية. وكذلك ما امتلكته المقاومة الفلسطينية من صواريخ في قطاع غزة. ثم أضف ما أخذ يعلنه الكيان الصهيوني عن زراعة صواريخ في سوريا.
لهذا إن المطلب الأساسي للمواجهة الأمريكية ـ الصهيونية مع إيران هو ترسانتها الصاروخية وتطويرها، كما وضع حد للصواريخ التي انتشرت أو ستنشر في المنطقة.
هذا الطلب معزز الآن بفرض حصار اقتصادي خانق يرادُ له أن يصل حدوده القصوى. ولو عدنا إلى التجربة التاريخية الصهيونية ـ الأمريكية مع الدول العربية، لكان على الكيان الصهيوني وأمريكا أن يشنا حرباً على قطاع غزة ولبنان، بل على إيران، ولكنهما أظهرا حتى الآن إحجاماً، أو عجزاً، عن حسم الصراع من خلال الحرب.
وقد آثر دونالد ترامب أن يأخذ باستراتيجية الحصار الاقتصادي الخانق على إيران. وقد أراد منه أن يُحدث اضطرابات داخلية تدمر الثورة الإسلامية، إن أمكن، أو أن تأتي القيادة الإيرانية صاغرة لتنفذ شروط رفع الحصار مع إغراءات هائلة بالرفاه الاقتصادي.
المطلب الأساسي للمواجهة الأمريكية ـ الصهيونية مع إيران هو ترسانتها الصاروخية وتطويرها، كما وضع حد للصواريخ التي انتشرت أو ستنشر في المنطقة.
ولكن تسليم السلاح الباليستي والتخلي عن برنامجه، وما سيتبع ذلك من إنهاء سلاح حزب الله وقطاع غزة، وصولاً إلى شروط تتعلق بسوريا والعراق يشكل بالنسبة إلى القيادة الإيرانية ما يساوي المحال. فهو مسألة أمن قومي ووجود ولا مجال للمساومة عليه.
أما كل ما عداه، أي مع بقائه واستمراره، فسيعني المضي شهراً بعد شهر إلى النهاية التامة للتفوق العسكري الصهيوني. ومن ثم نشوء معادلة لا يستطيع أن يقبل بها. لأن الكيان الصهيوني، إما أن يكون متفوقاً تفوقاً كاسحاً، وإما ألاّ يكون. فهو لا يقبل العيش بندية مع الدول العربية والإسلامية، ولا يستطيع على المستوى الفلسطيني أن يعيش بندية مع الشعب الفلسطيني. فتلكم هي طبيعته، وتلكم هي التجربة الجزائرية مع المستوطنين الفرنسيين بعد الاستقلال. وكيف حين يكون استيطاناً اقتلاعياً إحلالياً، وما فوق استيطان عنصري.
على أن إيران من جهة أخرى لا تستطيع، وما ينبغي لها، أن تقبل بما يفرض عليها من حصار خانق إلى ما لا نهاية. فلا مفر لها من أن تسعى إلى وضع حد له. فلا فرق في نهاية المطاف، بين حرب الحصار، والحرب الأخرى. ولهذا لا حل أمام دونالد ترامب غير إنهاء الحصار، أو تخفيفه إلى حد بعيد، أو أن يذهب إلى التأزيم الأشد، فالحرب.
لا يستطيع أحد، ممن تابعوا تاريخ إقامة دولة الكيان الصهيوني من 1948 إلى 2014، أو ممن تابعوا تاريخ أمريكا وقبلها بريطانيا وفرنسا في دعم حروب الكيان الصهيوني، أو القيام بالمهمة بدلاً عنه (مثلاً في حربي 1991 و2003 في العراق)، إلاّ أن يدهشا كيف تستمر أزمة الصواريخ البالستية الإيرانية، وصواريخ حزب الله وقطاع غزة من دون حرب حتى اليوم.
يخطئ إذا ظن أحد، ممن تابعوا التاريخين المذكورين، أن ثمة تفسيراً لعدم اللجوء إلى الحرب حتى اليوم، إلاّ بسبب خوف من نتائجها أو بسبب عجز. أما إذا ظن أحد أن السبب يعود إلى الحصار كبديل للحرب، فإن عليه أن يتوقف عند عدد من الأحداث خلال السنة 2019 من أهمها إسقاط الطائرة الأمريكية من علو خمسين ألف قدم، وما كان يتوجب أن يُردّ عليها. ثم عليه أن يتوقف عند ضربة "أرامكو" الأخيرة في السعودية، وما راحت تفعله في الاقتصاد العالمي، أو تهدد بفعله إذا ما استمر الصراع آنف الذكر على وضعه الراهن.
وبكلمة، إذا ما استمر الحصار على أشده، وما يعنيه من حرب اقتصادية فسيقود العالم، بالضرورة، إلى فوضى كما تؤشر ضربة "أرامكو"، وما قد يزيد، أو إلى الحرب الأخرى.
طبعاً، الأفضل رفع الحصار ولو استمر التأزم، ما دام تطوير الصواريخ البالستية ونشرها ساريَيْن. لأن كسر التفوّق العسكري الصهيوني يجب أن يُعطى الأولوية. فما بعده غير ما قبله، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً.