بقلم د. وليد القططي
ذكر علي عشماوي في مذكراته التي نُشرت بتاريخ 2006 وهو يصف زيارته لسيد قطب "وجاء وقت صلاة الجمعة فقلت لسيد قطب دعنا نقم ونصلي، وكانت المفاجأة أن علمتُ- ولأول مرة- أنه لا يُصلّي الجمعة، وقال أنه يرى أن صلاة الجمعة تسقط إذا سقطت الخلافة وأنه لا جمعة إلا بخلافة". وقد يكون هذا الكلام على الأغلب من باب التشويه لفكر سيد قطب، خاصة وأن سيد قطب – رحمه الله – قد حث على صلاة الجمعة في كتابه (في ظلال القرآن) في تفسيره لسورة الجمعة "وصلاة الجمعة هي الصلاة الجامعة، التي لا تصح إلا جماعة، وهي صلاة اسبوعية يتحتم أن يتجمع فيها المسلمون ويلتقوا ويستمعوا إلى خطبة تذكرهم بالله... وقد وردت الأحاديث الكثيرة في فضل هذه الصلاة والحث عليها والاستعداد لها بالغُسل والثياب والطيب". وهذا لا ينفي وجود رأي فقهي ضعيف يربط إقامة صلاة الجمعة بوجود الخليفة، فالأحناف ذكروا من شروط الجمعة "إذن السلطان بذلك أو حضوره أو حضور نائب رسمي له" وبعض الشيعة الإمامية لهم رأي قريب من ذلك، فيربطون إقامتها بوجود الإمام أو نائبه أو الولي الفقيه.
لبرهة من الزمن فكّرت في هذا المبرر الشرعي لترك صلاة الجمعة واستبدالها بصلاة الظهر طالما لا يوجد خليفة للمسلمين بالمفهوم الشرعي التقليدي، بعد سقوط نظام الخلافة العثمانية عام 1924، بإعلان إلغاء الخلافة العثمانية على يد مصطفى اتاتورك وخلع آخر السلاطين العثمانيين محمد السادس، إلاّ إذا اعتبرنا الدكتور إبراهيم السامرائي المعروف بأبي بكر البغدادي زعيم تنظيم (الدولة الإسلامية) المعروف اختصاراً باسم (داعش) هو خليفة المسلمين وأمير المؤمنين عندما نصّب نفسه خليفةً المسلمين وأميراً للمؤمنين من على منبر الجامع الكبير في مدينة الموصل العراقية، فأصبح قائداً للمجاهدين وفاتحاً لبلاد الكافرين وقاطعاً لرؤوس المنافقين. وبما أنني لم أنضم لنادي المعجبين بداعش وأخواتها، ومن المبشرين بزوال دولتهم وأشباهها، ومن المُحذرين لتغلغل فكرهم القادم من صحراء نجد القاحلة، التي خرج منها قرن الشيطان ليُرخي بليله الحالك الظلام على بلاد العرب والعجم... فلا أرى أن البغدادي خليفة يأذن بصلاة الجمعة، أو يأمر بأدائها، وأرى كغيري من جمهور المسلمين أن صلاة الجمعة فرض لا يرتبط بوجود الخليفة أو إذنه.
لم يكن البحث عن مبرر شرعي لترك صلاة الجمعة رغبةً في مجاراة النفس الأمارة بالتهاون والكسل، وموافقة لوساوس الشيطان الداعية إلى التقصير والتفريط؛ بل كانت رغبةً في الهرب من الاستماع لخطب الجمعة أو الكثير منها على الأقل، التي لا يجيد الخطباء فيها إيصال رسالتهم الدينية إلى جمهور المصلين، ويكون مضمونها مناقضاً لمقاصدها الدينية وروح الشريعة ووسطية الإسلام، وتكون طريقة أدائها تفتقر إلى فقه الدعوة وأصول الوعظ والإرشاد الديني، حتى تحوّلت كثيرٌ من خطب الجمعة ذات مضمونٍ داعشي متطرف، أو حزبي ضيق، أو اتهامي هجومي على المجتمع، لا يرى من ظواهر المجتمع إلاّ الرذيلة والفساد، فيضخم الانحرافات الأخلاقية والاجتماعية ليجعلها الأصل في سلوك الأفراد والمجتمع، ولا يرى الفضيلة في المجتمع والاستقامة في الأفراد.
هذا النوع من الخطباء _ وهم كثر _ غلب عليه النبرة التشاؤمية الهجومية الاتهامية ضد الناس، وإساءة الظن بهم، ويرجع كل مصائب الدنيا، من هزائم وفقر وفساد وجرائم وأمراض وكوارث طبيعية وغيرها إلى المجتمع وبما كسبت أيدي الناس من فساد في البر والبحر، وبما ارتكبوا من فواحش وآثام، وبما ابتعدوا عن دين الله وعدم تحكيم شرع الله واتباع القرآن والسنة، لذلك فهم يستحقون عقاب الله وعذابه في الدنيا والآخرة. هؤلاء الخطباء البائسون يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً، وهم يجعلون خطبهم مليئة بتقريع وتوبيخ وتعنيف المُصلين، وهم لا يدرون أنهم يعطونهم جُرعةً من البؤسِ والتعسِ، ممزوجةٌ بقليلٍ من التحبيط والتثبيط وشيء من الهم والغم، فيخرج الناسُ من الخطبة ما بين كئيب ومكروب، أو بائس ويائس، أو منكود وقنوط. وهذا يختلف عن النقد الموضوعي الذي يبحث في العوامل الذاتية للفشل والهزيمة والتأخر وفق سنن القرآن التي ترد المسلمين إلى ما في النفس من خلل لإصلاحه.
وقد نسي هؤلاء الخطباء النكدون حديث سيد المرسلين محمد –صلى الله عليه وسلم- الذي رواه أبو هريرة- رضي الله عنه – ونصه "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم" أي أكثرهم هلاكاً ومعصيةً وتقصيراً بما قام بهِ من تيئيس للناس من رحمة الله، وبما يرى في نفسه من فضل عليهم وعُجب بأعماله، وبما نسي آيات الله وأحاديث رسوله المُبشّرة. وبما تجاهل الأصل في الخطاب الديني الداعي إلى إشاعة روح التفاؤل والحث على نشر ثقافة الأمل والرجاء في رحمة الله، والنظر للحياة بإيجابية ورؤية الجمال فيها، خاصة وسط بحر الظُلمات الذي يعيشه الشعب الفلسطيني المظلوم والمنكوب بالاحتلال والحصار والانقسام.
ولعل ما قاله الدكتور شوقي علام حول الخطاب الديني المنشود في مقال سابق له مفيد في هذا المجال خاصة خطباء الجمعة للخروج من مأزق خطباء البؤس والنكد "الخطاب الديني المنشود، لا بد أن يدفع باتجاه الأمل والبناء، وهذان لن يؤتيا ثمارهما إلاّ بالتفاؤل... فلا بد أن يُصبغ خطابنا الديني بالتفاؤل والشعور بالرضا والفرح والسرور والسعادة، وما ينعكس عنه من أثر إيجابي على كسب الإنسان، وعلى عمله وتوجهه نحو فعل الخير، لأن التفاؤل هو الميل إلى وجهة نظر مفعمة بالأمل، والتفكير في أن كل شيء سيؤول إلى الأفضل... فالتفاؤل هو ميل يحمل الشخص طبيعياً إلى الشعور بالسعادة الدائمة المتجددة، بحيث يشعر في أمل مستمر مهما كانت الظروف... وأنه سينتصر في النهاية".