Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

شهادة الجودة في إدارة البؤس من نصيب العرب

بقلم د. وليد القططي

الجودة تعني ملائمة الشيء للغرض الذي صُمم من أجله، وإدارة الجودة هي الطريقة التي تضمن بأن جميع النشاطات الضرورية لتصميم وتطوير وتطبيق المُنتج أو الخدمة في المؤسسة فعّالة وتعمل وتنتج بكفاءة، ونظام الحكم في الدولة كمؤسسة ضخمة وظيفية من المفترض أن تحقق كفاية سكانها المادية، ورفاهيتهم الحسية، وسعادتهم المعنوية، وبذلك تكون قد حققت مفهوم إدارة الجودة، أما إذا تسبب نظام الحكم في الدولة في جعلهم يعيشون في عوز مادي، وشظف حسي، وتعاسة معنوية، فإنه بذلك يكون قد حقق مفهوم إدارة البؤس، وهو عكس الدور الوظيفي لنظام الحكم في الدولة المتمحور حول مصلحة مواطني الدولة وكل من يقطن في حدودها السيادية، وهذا حال معظم أنظمة الحكم في الدول العربية، وبهذا تصبح شهادة الجودة في إدارة البؤس من نصيب العرب وبالتحديد أنظمة الحكم العربية.

شهادة الجودة من نصيب العرب الذين تحكمهم أنظمة حكم مُتخلفة، هي الوجه الآخر لإدارة التوّحش عند تنظيم داعش الإرهابي، وهما وجهان لحقيقة واحدة، باطنها فيه الشر والقُبح، وظاهرها فيه الاستبداد والفساد؛ ذلك بأنهما يستقيان من نفس البئر الملوّثة ببكتيريا التكفير والتخوين، ويشربان من نفس الكأس المسمومة بجراثيم الإقصاء والاستئصال، ويرتويان من نفس البركة الآسنة المليئة بفيروسات الكراهية والجهل، ويأكلان من نفس الشجرة الخبيثة الملعونة التي تنتج ثمار الزقوم بطعم أوهام الفرقة الناجية والنُخبة المُختارة، وضلالات امتلاك الحقيقة القطعية، والسلطة المُطلقة. أنظمة حكم تحوّل فيها الجمود إلى استقرار، والاستبداد إلى نمط حياة، والفساد إلى أصل وقاعدة، والغش إلى شطارة، والوصولية والتسلق  والنفاق والانتهازية إلى ذكاء اجتماعي، والكذب والنصب على الآخرين إلى (جدعنة) وحسن تصرف، وارتبطت الوظيفة بالرشوة والمحسوبية والواسطة، والترقّي في الوظيفة ارتبط بالقدرة على إجادة فنون التزلف والولاء ومعرفة (من أين تؤكل الكتف)، وأصبحت السلطة طريقاً لجمع الثروة، كما كانت الثورة طريقاً للثراء.

شهادة الجودة في إدارة البؤس لأنظمة حكم مُتخلّفة عجزت عن حماية الاقتصاد الوطني وتحقيق النمو الاقتصادي وبناء اقتصاد حديث ومستقل؛ بل كرّست التبعية الاقتصادية بعد السياسية للغرب، وشجعت الاقتصاد الاستهلاكي والطفيلي، وأساءت توزيع الدخل بين فئات المجتمع، فذهبت شعارات العدالة الاجتماعية أدراج الرياح ونظمت عملية نهب ممنهجة لثروات الشعب لصالح النخبة الحاكمة والطبقة الطفيلية التي تعتاش على عرق الشعب، وعطلّت القوانين التي تشجع الاستثمار الاقتصادي الإنتاجي، واختفت البرامج الاقتصادية الكبرى أو سُرقت، ودُمّرت في عهدها الزراعة فتكونت مدن الصفيح حول المدن لتصبح وكراً للفقر والمرض والجهل والجريمة، وقُتلت ثقافة الإنجاز لتصبح الوظيفة مقابل الانتماء، والأجر ثمن الولاء، بدلاً من الوظيفة مقابل الكفاءة والأجر ثمن الإنتاج وامتد العجز إلى الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة وتوفر السلع الأساسية لإيجاد فرص العمل للأجيال الصاعدة، وحتى بعض الأنظمة النفطية الغنية لم تسلم من هذا العجز واشتركت جميعها- الغنية والفقيرة – في تكريس نمو الاقتصاد الاستهلاكي المُلحق بالاقتصاد الغربي، ورسّخت دونية المواطن وأهدرت كرامته عندما قايضت حريته واشترت سكوته بالوظيفة.

شهادة الجودة في أدارة البؤس لأنظمة الحكم العربية تتجلّى في الجانب الديني من البؤس في العديد من المظاهر منها تردّي الفتوى ووقوعها بين فكي كماشة الاستبداد السياسي والتطرف الديني، فتحوّل دين الرحمة والتسامح والإنسانية إلى دين القسوة والتعصب والذبح، وتحوّلت العبادات من زاد يمنحنا القوة والمدد للتطهر الدائم والسمو الروحي المتواصل إلى فقه يغرقنا في الطقوس الشكلية الخالية من المعنى والمضمون، وتحوّل الإيمان بالقضاء والقدر والتوكل والصبر من طاقة إيجابية للثورة على الطغاة والطغيان إلى طاقة سلبية للسكوت على الطغاة والطغيان، وتحوّل دور الفقهاء من التصدي للاستبداد  ومقاومة الفساد ورفضه الظلم ونزع الشرعية عن الحكام الغاصبين للحكم إلى منح الغطاء الشرعي للاستبداد وشرعنة الفساد، وتبرير الظلم، واختصار الشرعية على حكم الطغاة، وتقييد المشاركة الشعبية في الحكم للحد الأدنى، وإسقاط حق الشعب في اختيار وعزل مكان لصالح نخبة من (أهل الحل والعقد) وانشغل بتقييد المرأة بالشرع واثبات أن المرأة عورة بدلاً من الانشغال بإعطائها حقوقها الشرعية وتمكين المرأة في المجتمع لتعزيز دورها في الإنتاج والانجاز والنهضة.

شهادة الجودة في إدارة البؤس في نسختها الفلسطينية تختلف إلى حدٍ ما عن النسخ العربية، فهي تشبههم في كل أوجه البؤس السابقة، وتتجاوزهم في إضافات نوعية لن يستطيعوا تقليدها، فإضافة إلى البؤس الذي يفرضه الاحتلال على الشعب الفلسطيني بأسره، فنحن نستحق الشهادة لما فعلناه بأنفسنا من إقامة سلطة تحت الاحتلال تُريحه من الكثير من أعباء الاحتلال المُرهقة، وانقسام في السلطة لم نستطع تجاوزه منذ عقدٍ ونيف من الزمان، وما تبعه من مناكفات وعقوبات أرهقت الشعب قبل أن تُرهق الفصائل، وأصبح لدينا سجون صغيرة لما ملكت أيدينا من مواطنين، سجانٌ يٌمسك سجان، داخل السجن الكبير الذي يمسك مفاتيحه الاحتلال، وما الاستبداد في الممارسة السياسية عنّا ببعيد، والفساد في المؤسسات السلطوية والحزبية أقرب إلينا من حبل الوريد... وإلى حين نيل شهادة الجودة في إدارة السعادة والرفاهية والفرح لا بد من قرع جدار الخزان.