بقلم د. وليد القططي
مذبحة سيرلانكا إبريل الحالي، ومذبحة نيوزيلندا مارس الماضي، وكل المذابح على خلفية دينية عبر التاريخ، مذابح متشابهة في دوافعها ومضمونها، رغم اختلاف الزمان والمكان، ورغم تُبدّل الجناة والمجني عليهم وتغيّر المجرمين والضحايا، ووجه الشبه البائس بين المذابح الدينية هو أنها إرهابٌ بطعم الهمجية والوحشية، وأنها إرهابٌ واحد وضحايا مختلفون، وربما أكثر ما يجمع بينها هو أنها إرهابٌ باسم الله – سبحانه وتعالى- ، ووحشية بغطاء ديني، والعجب العُجاب المُثير للاستغراب هو مقدار الشر الهائل المخزون في جوف المخلوق الآدمي؛ ثم مدى قدرته على إفراغ هذا الشر عُنفاً لا رحمة فيه وقسوةً لا شفقة فيها، ثم جرأته على نسب كل هذا التوّحش الشرير إلى الله – سبحانه وتعالى- وإلى الدين- إفكاً وبُهتاناً- ، والأشدُ عجباً وغرابةً أن يفرحَ ويبتهجَ بعضُ المخلوقات الآدمية بمذبحةِ سيريلانكا، كما فرحَ وابتهجَ البعض الآخر بمذبحة نيوزيلندا، بدلاً من أن يصيبهم الحزن والهم، أو يدركهم الشجن والغم.
إرهابٌ واحد وضحايا مختلفون، نتيجة طبيعية للتطرف الديني، وهو أخطر أنواع التطرف؛ لأن نتيجته الحتمية هي تكفير الآخر المختلف والمُخالف، ثم شيطنته ووضعه في مرتبة أقل من الآدمية، لنزع الصفة الإنسانية عنه، تمهيداً لاستسهال قتلة باسم الله وبغطاء الدين؛ ذلك بأن المتطرف الديني، وكل أنواع التطرف الديني والمذهبي والعرقي والحزبي، وحتى التطرف غير الديني كالعلماني والشيوعي وغيرها، يعتقد فيها المتطرف بأنه يمتلك الحقيقة المُطلقة والحق الكامل والصواب التام، والآخر المُختلف والمُخالف يمتلك البُهتان المُطلق والباطل الكامل والخطأ التام. وأن جماعته أو طائفته أو حزبه هي شعبُ الله المختار أو الفرقة الناجية التي تستحق الحياة في الدنيا والخلود في الجنة، وأن الجماعات المُغايرة هي فرق هالكة تستحق الموت في الدنيا والخلود في النار. وجميع المتطرفين يستقون من بركة آسنة واحدة تمدهم بماء ملوث بمنهج تفكير موّحد يعتمد على أُحادية الرؤية، والثنائية القطعية، والنظرة الإقصائية، وعدم تقبل الآخر المُختلف... بتفاوت نسبي بين المتطرفين أفراداً وجماعات.
التطرف المُنتج للإرهاب الدموي أصله واحد، رغم اختلاف الأديان التي تقف خلفه، واختلاف الارهابيين الوحشيين، واختلاف الضحايا الأبرياء. فالتطرف المسيحي الذي قتل من المسيحيين ملايين البشر في حروب صراع المذاهب المسيحية الدموية، وفي محاكم التفتيش الرهيبة ضد الخارجين على الكنيسة، وقتل من المسلمين الملايين في الحروب الصليبية في العصور الوسطى، وحروب الاستعمار الأوروبي الحديث، بعد أن زاد التطرف الديني إلى غلوائه وعنفوانه الفكرة العنصرية، وجوهرها أحقية وواجب الجنس الأبيض (المتحضر) في احتلال واستيطان أراضي الشعوب غير الأوروبية (المتخلفة)، من أجل تعمير أراضيها (وترقية) سكانها، ولا ضير أن قُتل وهُجر واستُعبد في سبيل ذلك الهدف (السامي) الملايين من السكان الأصليين (الهمج). وقد صبت الثقافة الانجلو – بروتستانتية المهيمنة على كل من بريطانيا وأمريكا زيتاً ملوّثاً بالعقيدة الانجيلية المستمدة من العهد القديم (التوراة)، والمؤمنة بعودة المسيح المُخلّص على انقاض هدم المسجد الأقصى، الذي سيقتل المسلمين وينصّر اليهود، لتبدأ الألفية المسيحية السعيدة.
التطرف الديني اليهودي لا يُبعد كثيراً عن التطرف المسيحي، بل كلاهما يخرجان من شجرة خبيثة واحدة هو مفهوم الأفضلية على سائر البشر، وكأن الأفضلية للجماعة البشرية التي تحمل الدين، وليس للدين نفسه، فإن تخّلت عن الدين ذهبت أفضليتها، وهذا ينطبق أيضاً على المسلمين الذين كانوا خير أمة أُخرجت للناس عندما حملت رسالة الإسلام للبشرية‘ فإن ألقت عن كاهلها الرسالة انتهت خيريتها. فاليهود يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار وأبناء الله وأحبائه، وينظرون لبقية البشر الأغيار (الجوييم) بأنهم دونهم في المرتبة البشريةأقل منهمفي المستوى الأدمي، بل بأن الله خلقهم خدماً لليهود،وهذه الفكرة لوحدها هي مصدر تطرفهم وإرهابهم،فماذا لو أُضيفت لها الفكرة العنصرية الغربية الموجودة فعلاً في الايديولوجية الصهيونية بمفهومها العنصري وبُعدها الاستعماري الاستيطاني الإحلالي، الذي يجعل وجودهم في فلسطين ككيان قومي ديني مرتبط بإبادة وتهجير الشعب الفلسطيني من وطنه.
التطرف الديني عند المسلمين لا يختلف كثيراً عن التطرفين المسيحي واليهودي من حيث منبعه ونتيجته مع اختلاف في كم العنصرية الطافح في التطرفين السابقين، ومنبعه مستمد من قراءة خاطئة لحديث( الفرقة الناجية)، التي أُسقطت عليها عقيدة (شعب الله المختار) اليهودية، وهي بداية تقديس الذات الفردية والجمعية، واحتقار الآخرين الأغيار، ليتحوّل من فهم عقلي إلى انفعال وجداني فعمل سلوكي ارهابي. وزاد على ذلك خطيئة تاريخية وقراءة جامدة لمدرسة فقهية وعقيدية للإسلام، ترى في رؤيتها واجتهادها في فهم النصوص الدينية هو الإسلام نفسه وليس اجتهاداً داخل الإسلام. وتعتبر فتاوي شيوخها الدينية هو الدين ذاته وليس فكراً دينياً ناتجاً عن فهم عقولهم للنص الديني، وهو نوع من الفهم الحرفي للنصوص بمعزلٍ عن المقاصد الكلية للدين، والإدراك الفعلي للأحكام الشرعية، وفي إطار تغير الزمان والمكان والظروف. وقد أُعيد انتاج التطرف المُعاصر بفعل تلاقح تيارين تكفيريين، أحدهما قادمٌ من لظى رمال الصحراء الجرداء والآخر قادمٌ من لهيب حجارة السجون الصماء.
خُلاصة الكلام وفصل المقال بما أن المذابح التي يرتكبها المسلمون ضد غيرهم تضر بالإسلام والمسلمين أكثر مما تضرُ المذابح التي يرتكبها غير المسلمين بالمسلمين فاقتبس فقرة من مقال (لا همجية في الإسلام) من كتاب (النظرات) للأديب الكبير مصطفى المنفلوطي كتبها بعد مذبحة ارتكبها المسلمون ضد المسيحيين في إحدى ولايات الدولة العثمانية الغابرة "أيها المسلمون: اقتلوا المسيحيين ما شئتم وشاءت لكم شراستكم ووحشيتكم، لكن حذار أن تذكروا اسم الله على هذه الذبائح البشرية، فالله سبحانه وتعالى أجل من أن يأمر بقتل الأبرياء... ما جاء الإسلام إلاّ ليقضي على هذه الهمجية والوحشية التي تزعمون أنها الإسلام.".