بقلم : عيسى قراقع
توفي الشاعر الفلسطيني والأسير المحرر خليل توما يوم 12/2/2019 ابن مدينة بيت جالا قضاء بيت لحم، والذي قضى عدة سنوات في سجون الاحتلال، واحد مؤسسي اتحاد الكتاب الفلسطيني في الأرض المحتلة في بداية الثمانينات، وهو صحفي وكاتب وشاعر ومترجم ساهم في بلورة المسيرة الثقافية الفكرية في فلسطين بإبداعاته ومجموعاته الشعرية ومقالاته التي امتازت بالانتماء الشغوف إلى فلسطين وبالإيمان العميق بالحرية والانتصار.
ترك خلل توما قصيدته المفتوحة على ارض فلسطين، وسمعنا صوته يقرع أجراس الكنائس والأديرة في مدينة بيت جالا، لأنه كان يكتب بحرارة الزيت والزيتون، وبحرارة اللاهوت، بحرارة الفلاح يحمل فاسه فوق التراب الأحمر، حرارة المزارع وهو يراقب الشجرة تنمو في فضاء أحلامه.
هو ان تكون الخصب في هذا التراب بذاره
في الريح ديمته وفي الجدران باب
أو تمزق بالفؤوس إذا يبست
وهكذا الحطاب..
خليل توما الشاعر الفلاح، المتحيز للعمال والطلاب والفقراء والجوعى وللعدالة الإنسانية، عاشق الأرض والحجر والماء والينابيع الأولى، شيد قصائده بيوتا عامرة فوق الأرض، سقاها بنصوصه ودموعه ودمائه، تعبد في طقوسها ومواسمها، تشعر كان الكلمات صراخ، الكلمات أسماء وبشر وحياة
أنت لا تعرف ان الشجرة
غابة مستترة
ان تحت الحجر الصامت نبض من مياه ضجرة
فارفع الآن إلى الشمس يديك
هي ذي لا تبخل الأرض عليك
القصائد عند خليل توما فؤوس ومعاول، وهاهو الفأس في ارض القصيدة، يحاور التراب والماء والمدفونين، يعانق الآبار المتحصنة في الصخور، يتحرك فيوقظ أنفاس الغائبين والمطرودين، توجعنا القصيدة لان الأرض مستلبة منهوبة مصادرة، وتوجعنا أكثر هذه الجرافات وتلك المستوطنات، وخليل يسابق الزمن، يضرب بفأسه بقوة وعزيمة:
انه الوقت الذي يلهب بالسوط التراب
أسرعي يا بذرة النار أسرعي
رحل خليل توما وقصيدته لا زالت أسيرة، مسيجة، محشورة في تلك الزنازين والمعسكرات، ليل وجدران وأغان فوق الأسلاك الشائكة، كل أسير يحمل فاسه وغيمته ودمه وعتاده الإنساني، لحم وعظم وجوع واشتباك
بيني وبين السجن خطوة
بيني وبين الموت خطوة
بيني وبين النصر خطوة
ما الزنازين تثنيني ولا الكرباج أو مليون لكمة
أنا برعمه الرعد وبذرة الزلزلة
للكلمات عند خليل نوما قوة حارقة، تحمل نبوءة وذات نبرة رسولية لا يعرفها السجان ولا يدركها الطغاة والجلادون، وفي كل قصيدة صلاة وبشرى وأمل، قصائده مليئة بالحجارة والأطفال، فمه مليء بفلسطين يأخذها إلى المستقبل ويغني:
جيل يستيقظ في غرف التحقيق
يفيق يفيق
وعصى الشرطة تصنع من شعبي حزبا والكل رفيق
عاش خليل توما حياته حاملا فاسه على كتفيه، يقول للناس اتبعوني، في داخله صوت الشعب الذي حوله إلى صوت جماعي، لا خوف من العتمة، لا خوف من السجن، الإرادات فؤوس، والإرادات شجر، الإرادات شموس لا يراها السجانون:
في ليال يغلق السجن على حر ومناضل
ويؤدي دوره السوط
على لحم الرجال
يستطيل الشجر النابت في الغور
ليلقي ظله فوق الجبال
خليل توما يتدثر بالقصيدة، والقصيدة تصير كوفية أو بندقية، يقاتل بما في النصوص من دماء ويرفض الخنوع والسقوط، فالأسرى في الزنزانات يغنون، يرحل الصقيع، يعبر النهار وتحت اقدامهم ألف سياج يتهاوى وجدار
هو ان تكون رصاصة
أو ان تكون فريسة
خلي توما يوقظ ابطاله في القصيدة، يرسلهم إلى بلاد الانتصار، هي صوت الآخرين، وكل حر ومناضل في أي بلد في العالم يكتشف نفسه في قصيدة خليل توما، كل مناضل من اجل الحرية يجد صورته وصوته في قصائده المنفتحة على كل الشعوب التي تناضل من اجل الكرامة والحرية والاستقلال وضد الظلم والعبودية
ينتفض العصر الرافض
لتولد الأشكال ثانية
الحب والسلام لا يموتا، والشعوب باقية
من هذا الشاعر الذي لا يملك شيئا ولكنه يملك الثقة على التغيير؟ يملك الطاقة الثورية للدفاع عن بلده وإنسانيته، لتجد ان في الإيقاع انفجار، وفي الكلمات بارود ورصاص، صوت الفأس يضرب الأرض
املك لا املك شيئا
املك كل الأشياء
املك في سواعدي طاقة تغير الدنيا
من بؤرة حشاش لجنة خضراء
هو شاعر الأرض بامتياز، أجفان فاسه تغفو في حضن الأرض، تحلم بالأعماق المهجورة، تحلم بالأسطورة، وبالشجر الخاشع بالأنفاس المقهورة، ولا زال يهتف
تمردي تمردي لا ينفع الهرب
والزند أقوى عندما يشحنه الغضب
رحل الشاعر خليل توما تاركا فاسه في ارض القصيدة، كان منذورا لأرض فلسطين، وكان منذورا للحياة والثورة والتمرد على الاضطهاد والعبودية
أعددت مائدتي وناديت اليتامى
والذين بلا وطن
وعرضت أكبادي وأفئدتي... تعالوا صحت
في الليل الغريب على الرصيف
هذا دمي فتفضلوا.. وخبزت من جسدي الرغيف
رحل الشاعر خليل توم والقدس المحتلة تتألم، حاراتها وأماكنها المقدسة في أحشاء القصيدة، تتراءى بين عينيه:
ثائر بلا نور وفي سردابه ينتفض الحديد
ويداه تبحث في الظلام
عن صورة للقدس أودعها خبايا القلب
ثم هوى ونام
رحل الشاعر خليل توما وهو يضرب بفأسه الأرض، انتفض التراب، خرج الشهداء وانتصبت العظام كما الحراب، ولا زال مقتنعا ان ما بين الطلقة والطلقة متسع للربيع، وبين الظلمة والركلة متسع للربيع ينمو ثانية ما بين الخنجر والطعنة، ما بيت الصلب وبعد الصلب وبين القبر وبين الفجر:
حين حفرت الشبر الأول
بالفأس الأولى
كنت أرى النفق الموصول
إلى قعر البئر
لعل ثورة التراب والحجارة
تمهد الطريق
لعل زهرة تكون لي إشارة
لم نزل نمسك مصباحا وفأسا
وعظام طازجة
خليل توما يدعوكم إلى حمل فؤوسكم وحماية الأرض
احفري
ربما ينهض طفل حطمته السنوات
ثم تنهض طفلة ويصير الطفل برقا
ثم تأتي الزوبعة
يا نجوم القدرة المنتقمة
يخرج من تحت الأرض
شيء ندعوه الرفض
ودعت مدينة بيت جالا شاعر الأرض خليل توما، وجدوه في البساتين معفراً بالتراب، يحمل فأسا ودلوا من الماء، عثروا في جيوبه على نكافة وبضع حجارة، وحبات من الزيتون وقصائد عتيقة هربها من السجن، كان ينتظر الربيع، اشتال كثيرة سوف يزرعها في الموسم القادم
في ربيع قادم آتي فما القبر باق
كي يبقى عندما تنسفه نار يقيني
في ربيع قادم آتي إليكم
في ربيع قادم فانتظروني
في يوم الأرض 30 آذار أوصى خليل توما ان يكتب على قبره العبارة التالية:
فيما انزاح تراب القبر
وانفض غبار الآخرة
وتهاوت في عيوني كالمسامير ضياء غامرة
ما تذكرت سوى ارضي وبيتي