وصلت إلى مكتب المدعي العسكري في تمام الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الاثنين الفائت. كنت على ميعاد معه لمناقشة ملف الأسير الإداري خليل عواودة، المحتجز في عيادة سجن الرملة بحالة صحية خطيرة للغاية.
لم أنتظر طويلا عند مدخل المحكمة العسكرية في معسكر عوفر؛ فما أن وقفت أمام الباب الخارجي، وقبل أن أصرخ على الحارس، سمعت طنين القفل الكهربائي المتواصل، الذي يشبه موسيقى المونيتور المزعجة، حين يتوقف قلب المريض الموصول به، فدفعته وتقدمت نحو الحارس الذي كان ينتظرني وهو يشق بجسده الكبير الباب الحديدي ويرحب بي بحفاوة وباحترام. تساءل، مبديا قلقا، حول غيبتي الطويلة عن المحكمة؛ فطمأنته بعجالة، وشرحت له، ببضع جمل مقتضبة، أنني مررت بأزمة صحية أجبرتني على الابتعاد قليلا، وأخبرته أنني أحاول أن أجد مرفأ جديدا يكون أكثر هدوءا ووفاء، ويقبلني، وأنا بكامل بياضي، لألقي على أرصفته معاطفي القديمة، وفي مياهه مرساتي الثقيلة. كان ينظر وفي عينيه بريق خافت، فقلت له: «ببساطة أريد الانصراف عن عالمكم الرصاصي الكثيف، حيث يختبئ الموت تحت ألف قناع وعين، والقهر يمارس عهره بجنون يومي وعادي». لم أشعر بأن الحارس فهم كل كلامي؛ لكنه بدا مرتاحا وراضيا، فأدخلني وتمنى لي يوما جميلا وناجحا؛ شكرته على كل حال، فهو لا يعلم طبعا أن دعوته، إن أصابت، ستعني عمليا نجاحي بإبطال أمر الاعتقال الإداري ضد الأسير خليل عواودة المضرب عن الطعام منذ خمسة وتسعين يوما.
مشيت ببطء وبتثاقل ممتثلا لأوامر رئتي؛ فالشمس، هنا فوق فلسطين المحتلة، هي أيضا في خدمة الاحتلال، وأشعتها مسلطة على رؤوسنا كمسلات من نار محفورة عليها رسائل غضب السماء وصور لأشباح هزيلة. كنت أقطع باحات المحكمة مطرقا في ترابها، وكأنني لا أريد أن أتذكر كيف ريقت على أديمها دموع الأمهات الباكيات مصائر أكبادها، ولا كيف ديست أرواح الإنسانية بسهولة فجة ومستفزة. كنت ألهث كفجر خريفي يحاول أن يهرب من ليل فاحم، وأتهيأ لمواجهة يومي. كان الطريق أطول بكثير مما ألفته خلال سني عملي في هذه المحكمة، لكن رائحته بقيت كما كانت، حامضة كالقيء. كان النائب العام شابا نحيفا طويل القامة صارم القسمات، كما يليق بجندي يمثل احتلالا عاتيا. وقف باسطا يده لتحيّتي، فسلمت عليه. كان يبتسم بمودة متأنية ومدروسة. عرض عليّ مشاركته بشرب فنجان قهوة مردفا، أنه تعرّف عليّ أول مرة قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما، حين كان جنديا إداريا يعمل في مكتب المدعي العسكري العام في وزارة الجيش في تل- أبيب، وكنت أتردد على المكتب لمناقشة بعض الملفات التي كنت موكلا فيها وأتابعها. كانت مقدمته فاتحة مشجعة وإيجابية. ثم انتقلنا بعدها للأهم، فسألني ماذا أريد؟ أجبته من دون تردد وبسرعة: «الإفراج عن خليل عواودة»؛ وأضفت: «إنني على قناعة بعدم وجود سبب حقيقي لاعتقاله إداريا، خاصة أن قوات الأمن سجنته في البداية وحققت معه حول منشور، كان ألصقه على صفحته في الفيسبوك حيّى فيه انطلاقة الجبهة الشعبية، رغم أنه لا ينتمي إليها؛ بعد التحقيق معه أنزلت بحقه لائحة اتهام عزت له تهمة التحريض، ومعها طلب لتوقيفه. رفض القاضي العسكري توقيفه حسب طلب النيابة وأمر بإطلاق سراحه.. لم تطلقوا سراحه، بل قمتم، كما في كثير من هذه الحالات العبثية، بإصدار أمر اعتقال إداري بحقه لمدة ستة شهور، بذريعة أنه ناشط في حركة الجهاد الإسلامي، من المفروض أن تنتهي مدة هذا الأمر في السادس والعشرين من الشهر الجاري». سمعني بإصغاء وأجاب باقتضاب: «أنت تعرف، من تجربتك الغنية والطويلة، أننا، نحن في النيابة العسكرية، لسنا العنوان الحقيقي لهذه الملفات؛ فأوامر الاعتقالات الإدارية يوقع عليها قائد الجيش ويصدرها وفق توصيات جهاز المخابرات العامة، ثم نتولى نحن مهمة الدفاع عنها أمام قضاة المحاكم العسكرية فقط، لكننا لسنا المخولين بإلغائها أو بتغييرها». لم تفاجئني إجابته، لكنني اعترضت على طريقة إدلائه بها بصورة روبوتية خالية من أي منطق ومن أي قدر لاحترام الذات. تركت مكتبه بهدوء خاسرٍ يعرف كيف يحتضن كبرياءه ويداري ربيعها، ولم أتلُ عليه، كما كنت أفعل مع من سبقوه في ماضي السنين، دروس الضحايا وماذا بعد عنجهية الطغاة؛ فهو ومثله جميع من ولدوا في حضن الخوذات ودفيئات البطش، يحسبون أن التاريخ ينحني للأقوياء، سادة الزمن ووكلاء عدل السماء.
على حاجز صغير قبل مدخل سجن الرملة أوقفني سجّان أسمر بدا عليه النعاس والملل، سألني، بلغة تشبه العبرية، عن مقصدي وقبل أن يسمع إجابتي رفع ذراع الحاجز وأشار بيده موجّها إياي إلى موقف السيارات. أدخلوني إلى ردهة السجن بسرعة نسبية، فاستقبلني، من وراء الزجاج، سجّان تصرّف معي بلطافة لافتة لأنه يسكن في بلدة جليلية لي فيها أصدقاء كثر. انتظرت بضع دقائق حتى مرّت سجّانة، فوافقت أن تصطحبني إلى عيادة السجن. أنهيت الفحص الأمني من دون عثرات، ومشينا فسبقتني برشاقة مقصودة. حاولت أن أتبعها من دون فائدة. كانت تنظر وراءها، من حين إلى حين، لتطمئن أنني هناك، وليبتسم شبابها، تبسمت مثلها، فالتبس عليها الأمر وعَبَست. دخلتُ مبنى العيادة الذي يشبه باقي أقسام السجن. أعطيت تفاصيل بطاقتي الشخصية واسم موكلي للسجان، فطلب مني أن أدخل إلى غرفة الزيارة لافتا انتباهي إلى أن حالة خليل الصحيّة متضعضة، فعليّ ألا أرهقه بالكلام. أحضر خليل وهو جالس على كرسي متحرك.. تركه السجان وراء الزجاج وغادر الغرفة. رفع رأسه وفتح عينين متعبتين وجفنين منهكين. كان ضعيفا جدا وشعره خفيفا. كانت ملابسه تفضح خسارته ثلاثين كيلوغراما من وزنه، وصفرة وجهه تنذر بخطورة المرحلة التي وصل إليها. وضعت كفي على لوح الزجاج الذي كان يفصل بيننا ففعل مثلي وانفرجت شفتاه عن أسنان بيض كالصباح، ثم قال ضاحكا: «لقد كبرت الجاكيت عليّ..» وحاول أن يمنع سقوطها عن جسمه. نقلت له سلام الأهل والأحبة فرأيت نورا يشع من جبينه، ومضينا في رحلة، تمنيت ألّا تنتهي إلّا وهو معي بالسيارة. لماذا أنت مضرب يا خليل؟ ساأته وأضفت: لقد وصلتَ إلى مرحلة خطيرة تواجه فيها احتمال الموت المفاجئ في كل لحظة! أخذ نفسا عميقا، كمن يحاول الإفلات من موجة عالية واستجمع بقايا روح وقوة وقال: «أريد حريتي؛ فهذا الاعتقال عبثي بامتياز. لقد اعتقلوني إداريا في الماضي لمدة ستة وعشرين شهرا وأفرجوا عنّي عام 2016. التحقت بعدها بالجامعة لدراسة الاقتصاد وأقمت عائلة ومضيت نحو المستقبل كأي إنسان حر يريد أن يعيش بكرامة وبسعادة في كنف عائلته وبلده وأهله. لقد اعتقلوني وحققوا معي حول منشور عادي نشرته على صفحتي فقرر قاض عسكري أن يفرج عني، لكنهم قاموا باعتقالي إداريا بصورة كيدية وانتقامية، فقررت أن أخوض هذه المعركة انتصارا لكرامتي وللحرية وبالنيابة عن كل احرار العالم». كان صوته يأتيني عبر الهاتف متقطعا وضعيفا، وكان يتوقف عن الكلام أحيانا ليتقيأ، فهو لا يشرب إلّا الماء منذ زهاء تسعين يوما، ويشعر بأوجاع شديدة في عضلاته وفي منطقة الصدر، ويشكو من عدم انتظام في نبضه ومن رؤية ضبابية. تحدثنا كصديقين عتيقين حول مفهوم وصحة النضال من خلال الإضرابات الفردية عن الطعام، رغم ما تسببه أحيانا من إرباكات، أو إحراجات للبعض وللحالة الوطنية العامة. وتحدثنا عن خلّة الوفاء الذي يؤمن بضرورة وجوده كعماد لصيانة الهوية النضالية الفلسطينية، وتطرّقنا إلى منابت الفرح الذي يحاول هو أن يزرعه كل ليلة في أحلامه وكيف يجرحه ظلم الإنسان للإنسان.
كان خليل أمامي حرا كالأمل، وكان يحدثني عن هواجسه وأحلامه ورؤاه بكل صراحة وحب؛ وكنت أمامه حرا حتى حدود الدمع. فهمت أنه كان يقرأ ويحب ما أكتب، خاصة ما نشرت في شؤون الأسرى والإضرابات الفردية عن الطعام. وإنه يؤمن بأن هذه المعركة التي يخوضها، وهو على حافة الدنيا، بحاجة إلى فوارس يجيدون الركوب على حصانين ويمضون بهما في وجه الريح ونحو نهاية المدى؛ فحصان يعدو في ميادين قضاء الاحتلال العبثي، لكنه غير آبه للخسارة، وحصان يصهل في وجه العدم وأمام جميع الأمم. كان كلانا يعرف أن النصر قد يتأخر أو حتى لن يجيء، لكننا نعرف أيضا أن هزيمة الإرادة هي أقسى الهزائم وأشدها بؤسا.
كان صوته خافتا كالصلاة وكلامه بطيئا وواثقا؛ وكانت بسمته مطبوعة في الهواء. وحولنا نسمع ترددات صدى وصوت ينشد «سأصير يوما ما أريد/ سأصير يوما طائرا، وأسلّ من عدمي وجودي.. أنا حوار الحالمين، عزفت عن جسدي وعن نفسي، لأكمل رحلتي الأولى إلى المعنى»… جلست وراء مقود سيّارتي وهممت بالرجوع إلى القدس، أحسست أنني كطائر حبيس. على المقعد بجانبي ما زال الكتاب الذي كنت أقرأ فيه مفتوحا على صفحة تنتهي بجملة كتبها بطل الرواية لأصدقائه تقول: «هناك دائما وقت للرحيل حتى لو لم يكن ثمّة مكان تذهب إليه». وبدأت رحلتي من جديد.
كاتب فلسطيني