صادق الشافعي
عودة موسكو كحضن يجمع القوى الفلسطينية للمساعدة على تدبر سوء أمورها التي لا تسر صديقاً، هي عودة مرحب بها بقوة. لقد افتقدنا الدور السوفياتي/ الروسي الذي ظل ظهيراً وسنداً نستند إليه في كل المجالات منذ بدايات انطلاق مرحلتنا النضالية الأخيرة.
وكان تراجع الدور السوفياتي / الروسي في أوائل التسعينيات من عوامل الضعف في الموقف الفلسطيني، وكان أحد مبررات الدخول في اتفاقات لم تحظ بالإجماع الوطني.
الدور الروسي في عودته الآن ليس بديلاً لأي دور آخر من الأدوار التي حاولت بإخلاص رأب الصدع في الصفوف الفلسطينية، وليس بديلاً بشكل خاص للدور المصري، وجهوده المخلصة والمتواصلة لتحقيق هذا الهدف. وليست صدفة توقف التنظيمات الفلسطينية بالقاهرة وهي في طريقها إلى موسكو.
لا يجب تحميل لقاء موسكو أكثر مما يحتمل، ولا أن ننتظر منه اجتراح المعجزات، فدوره لا يتعدى المساعدة بالدفع للخروج من الوضع الذي أدخلنا فيه أنفسنا وأهلنا.
لو نجح الاجتماع في الوصول لاتفاق على عناوين محددة كبداية يبنى عليها وتتواصل على أساسها المساعي والحوارات، فسيكون هذا نجاحاً مقبولاً وبداية يمكن البناء عليها.
من هذه العناوين:
- وقف حملات الردح والتجريح والتشكيك في بعضنا البعض، ووقف التطفل على النوايا التي يستنطقها البعض ويبني عليها.
- الاتفاق القاطع والملتزم بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي البيت الجامع والممثل الشرعي والوحيد لنا جميعاً ولنضالنا الوطني بأشكاله كافة وعلى جميع المستويات. لا يزاحمها أو يوازيها في ذلك أي تشكيل آخر من أي نوع وشكل كان.
- الاتفاق على مواصلة الحوار بكل مسؤولية وطنية وبكل جدية وإيجابية ومرونة، وبكل واقعية أيضاً.
- الابتعاد لأقصى مدى عن التحليلات المستفيضة والمملة، وعن الكليشيهات كثيرة التداول والتكرار في كل مناسبة، وبلا مناسبة، والتي لا تبعث إلا الملل والنفور، خصوصاً أنها غالباً ما تكون على طلاق مع المواقف والممارسات على أرض الواقع.
- الانشداد إلى الحقائق التي تفرض نفسها ولم تعد تحتمل الإنكار لها أو التحايل عليها، ومن ثم التعامل معها وعلى أساسها بكل موضوعية.
الحقائق كثيرة ومتنوعة:
* حقيقة أن المجتمعين يمثلون ويتكلمون باسم شعب مناضل عظيم ومتمسك رغم كل شيء بوطنه وحقوقه الوطنية الثابتة وأهداف نضاله الوطني الإستراتيجية والمرحلية. هذا الشعب لا يستحق كل ما يفعله الانقسام والخلافات به.
* حقيقة أن العدو المحتل هو- بلا منازع - الأكثر حرصاً على استمرار وترسيخ انقسامنا، بالذات بين الضفة وغزة. هذا الحرص ظل ثابتاً من ثوابت سياسات العدو تجاهنا منذ انسحاب شارون من غزة ويستمر كذلك إلى اليوم والغد وما بعد الغد.
* حقيقة، أن حركة "حماس" لم يعد ممكناً بحال أن تترك كلياً الحكم الذي بنته لنفسها وحدها في قطاع غزة بعد انقلابها المخطط والمدروس في 2007 لصالح أي اتفاق أو تركيبة حكم لا تراعي خصوصيتها في الحجم والمسؤولية والحصة والقرار و....
لقد شكّل انقلابها في غزة بداية الانقسام، وتطور ليصبح كياناً سياسياً له حكومته (إدارته) ودوائره وأجهزته وقواته وأمنه وتشريعاته، وله مصالحه. وله أيضاً، علاقاته وتحالفاته السياسية التي وفرت له الدعم اللازم.
لا يغير من هذه الحقيقة لوم السلطة الوطنية لتأخرها الطويل في معالجة الانقلاب والانقسام وتوابعهما في بداياتهما.
* حقيقة أن كل التنظيمات تعايشت واقعياً ومع الزمن وبالممارسة مع اتفاقات أوسلو، وإن بنسب ومستويات متفاوتة. حصل ذلك عبر قبولها بالنظام السياسي الذي نتج عن الاتفاقات وتعاملها معه: بعضها شارك في حكوماته... الغالبية الكبرى شاركت في انتخاباته التشريعية... وانتسب أعضاؤها وكوادرها لأجهزته ومؤسساته.
لكن ذلك لم يوقف استمرارها، كلها تقريباً، في إدانة اتفاقات أوسلو ورفض جوهرها (الاعتراف بحق الكيان الصهيوني الاحتلالي بالوجود). ولم يوقف مقاومتها لتطبيقات دولة الاحتلال للاتفاق بما يخدم بقاء وترسيخ احتلالها وتوسيع استيطانها، ولم يوقف المطالبة بالخروج الكامل من الاتفاقات، وإلغاء بعض تطبيقاتها مثل التنسيق الأمني أو تعديل بعضها الآخر مثل اتفاقية باريس.
اتفاقات التهدئة مع دولة الاحتلال التي تقبل حركة "حماس" الدخول فيها والتوجه لتطويرها في أكثر من مجال حيوي، تتقاطع مع عدد من القواعد والمنطلقات التي قامت عليها اتفاقات أوسلو (مثل الاعتراف بوجود دولة الاحتلال والموافقة على التعامل والدخول معها في اتفاقات)، ولا يغير من هذه الحقيقة أنها تتم بطريق غير مباشر وعبر وسطاء.
* حقيقة اتفاق الكل الفلسطيني: السلطة الوطنية وجميع التنظيمات السياسية وقوى المجتمع المدني وعموم أهل الوطن، على رفض "صفقة القرن" التي يعدُ الرئيس الأميركي بإطلاقها، بما يفصح عنه التطبيق الواقعي لبعض بنودها عن حقيقتها التدميرية لكل الحقوق الوطنية الثابتة ولأهداف نضال الشعب الفلسطيني التاريخية والمرحلية.
الرفض المعلن لا يلغي تخوفات تصل إلى الشكوك من انزلاق أحد الأطراف باتجاه التعامل مع الصفقة، أو تسهيل تمريرها على الأقل، بغض النظر عن الدوافع أو الضغوطات أو الإغراءات أو حتى النوايا الطيبة.
* إن الحقائق الجامعة لكل ما تقدم وغيرها أن القوى الوطنية الفلسطينية وكل مؤسساتها لن تكون قادرة على التعامل مع كل هذه الحقائق ومقاومة أو إفشال ما تجب مقاومته وإفشاله منها وهي على الحال التي هي عليها من الفرقة والانقسام وتبادل الاتهامات.
هل يضاف لقاء موسكو إلى القائمة الطويلة من اللقاءات غير المنتجة، أم يُحدث اختراقاً في دائرة الانقسام؟