د. محمد السعيد إدريس
ما بين الزيارة السرية التي قام بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لقاعدة «عين الأسد» الأمريكية بمحافظة الأنبار العراقية فجر 27 ديسمبر/ كانون أول الفائت، ليحتفل مع قوات بلاده التي تعمل في تلك القاعدة بأعياد الميلاد، وما فجرته هذه الزيارة من تداعيات غاضبة في الأوسط العراقية الرسمية والشعبية، بسبب ما تضمنته من تجاوزات صارخة للسيادة العراقية، وبسبب ما كشفته من نوايا أمريكية «خبيثة» تخص العراق، وعلاقاته الإقليمية والعربية، وما بين الإفصاح الرسمي «الإسرائيلي» عن قيام ثلاثة وفود رسمية عراقية بزيارة «تل أبيب» تضم قيادات برلمانية شيعية وسُنية لأيام قليلة معدودة، لكن كانت أياماً مفعمة بالأحداث والتطورات الساخنة التي جعلت العراق مستهدفاً من دولة الاحتلال «الإسرائيلي»، ما يؤكد أن هذا الإفصاح يقصد تفكيك فرص استعادة التماسك الوطني الداخلي في العراق، والحيلولة دون عودة الدور العربي للعراق، سواء من خلال إعادة دمج العراق عربياً، أو قيام العراق بدور «جسر التواصل» بين النظام العربي ودول الجوار الإقليمي، لأن هذا الدور، في حال نجاحه سيؤثر سلبياً في مخططات «الهندسة «الإسرائيلية» لخرائط التحالفات الإقليمية».
أدركت «إسرائيل» مبكراً ما أحدثته زيارة ترامب من انقسام في الصف الوطني العراقي بين رافض بشدة لهذه الزيارة، وبين من هو رافض بتحفظ، وبين من هو غير رافض، كما وعت «إسرائيل» خلفيات تمايزات المصلحة الطائفية، وحرصت على استثمارها لشق وحدة الصف الوطني العراقي، والإبقاء على حالة عدم التجانس السياسي بين المكونات الوطنية العراقية، الأمر الذي تكشف بعد تبرؤ أحزاب وشخصيات وردت ضمن القائمة «الإسرائيلية» للشخصيات التي زارت الكيان، من هذا الكذب «الإسرائيلي»، ورفضته بالمطلق .
زيارة ترامب لقاعدة «عين الأسد» كانت هي بداية تأزيم العراق من الداخل مجدداً لأسباب كثيرة، أولها تجاوز الرئيس الأمريكي للسيادة العراقية، وهبوط طائرته في قاعدة «عين الأسد» مباشرة من دون مرور بالعاصمة بغداد، ولقاء القيادة العراقية، ما يعني أن الرئيس الأمريكي تعامل مع العراق باعتباره «دولة محتلة أمريكية»، وأن قاعدة «عين الأسد» أرض أمريكية، وهذا ما رفضته القيادة العراقية.
الرئيس الأمريكي ومن معه حاولوا التخفيف من وطأة هذا التجاوز للسيادة العراقية بالمبررات «الأمنية» التي فرضت السرية على الزيارة . أما السبب الثاني، وهو الأهم، فهو تلك التصريحات التي أدلى بها ترامب، وكشف فيها النوايا الأمريكية إزاء العراق ونفطه، وتوظيف أرض العراق لخدمة المخططات الأمريكية، وبالذات بعد إعلانه قرار سحب قوات بلاده من سوريا. فقد صرح ترامب بأنه «لا ينوي إطلاقاً سحب قواته من العراق، بل يرى العكس»، وفسر ما يعنيه بالحديث عن «إمكانية استخدام هذا البلد قاعدة في حال اضطرارنا للتدخل في سوريا».
وتابع العراقيون أيضاً حديث ترامب عن «التريليونات المهدورة في الإنفاق على الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط»، وتذكروا أحاديث ترامب أيام حملته الانتخابية عن «ضرورة استعادة أمريكا ثروة العراق النفطية»، وتابعوا التناقض بين رفضه لأن تستمر بلاده في أداء دور «شرطي العالم» وبين ما تقوم به بلاده من تعزيزات لقواعدها العسكرية في العراق ووصل عددها إلى 12 قاعدة، بين ما هو سري، وما هو معلن.
لكل تلك الأسباب، كان رد الفعل العراقي قوياً، ليس ضد زيارة ترامب فقط، بل وبالأساس للوجود الأمريكي في العراق، وطالبوا بإصدار تشريع من البرلمان يقضي بإنهاء هذا الوجود. وإذا كان بعض القادة والشخصيات السياسية في البرلمان العراقي، وخارجه قد تحفظوا على هذا الطلب، فإن أغلبية الشعب العراقي بكل مكوناته شعروا بالإهانة، ورفضوا زيارة ترامب، ورفضوا أي دور يخطط له الرئيس الأمريكي للعراق، وأكدوا رفضهم استخدام أرض العراق لشن أي عدوان على سوريا، أو غيرها.
وتابع «الإسرائيليون» الانقسام الواضح في الأوساط العراقية إزاء الوجود الأمريكي وزيارة ترامب، واعتبروها فرصة لصب الزيت على النار بعد الزيارة التي قام بها وزير الطاقة الأمريكي ريك بيري لبغداد ولقاءاته مع كبار المسؤولين، وما تكشف من تصريحاته من حرص أمريكي على توسيع الاستثمار في مجال استخراج النفط وصناعة الطاقة، بهدف تهيئة العراق للاستغناء عن اعتماده على استيراده لاحتياجاته من منتجات النفط الإيرانية ولتحفيز العراق للانضواء ضمن الدول الملتزمة بقرار فرض العقوبات الأمريكية على إيران.
زيف الإدعاءات «الإسرائيلية»، وسوء النوايا المدبرة من وراء تلك التسريبات كشفتها البيانات التي أصدرتها شخصيات وردت في القائمة «الإسرائيلية»، أكدت فيها أن التطبيع مع العدو «خط أحمر»، وأكدت التزامها «بالثوابت الوطنية، والدينية، والأخلاقية» التي تمنع مثل هذه «الخطيئة»، لكن اللافت أن لا المسؤولين «الإسرائيليين»، ولا الإعلام «الإسرائيلي» صدر عنهم أي تعليق على تلك البيانات التي تفضح نوايا الكيان الخبيثة والعدوانية ضد العراق، ما يؤكد أنها تسريبات ملفقة وزائفة، وحتى مع قيام شخصيات عراقية بزيارة الكيان، فإنها لا تعبر لا عن موقف وطني، ولا عن إرادة عراقية.