بقلم: الدكتور أحمد جميل عزم
عندما بدأ إضراب الأسرى في السجون الاسرائيلية، يوم 17 نيسان 2017، وضمن التفاعلات التي حصلت في نطاق ذلك الإضراب، اتصل الكاتب والناشط عبدالستار شريدة، مع الفنان اللبناني، أحمد قعبور، وتناقشا كيف يمكن دعم الأسرى المضربين، كل من موقعه. قررا طبعاً الغناء. وكانت المشكلة هي الكلمات. كتبَ عبدالستار، الكلمات، ووصلا لأغنية اسمها “المجد سيدك”، وفيها يقولان “لولا الخجل والله لابوس إيدك.” ثم يقولان “كيف استحي وانت المجد سيدك، سيدي أنا، بيكفينا خجل، لو قادر بدي بوس جبينك”.
لحّن أحمد الأغنية بروح تراثية قديمة نسبيا، بدت مألوفة حتى لمن يسمعها لأول مرة.
قبل أيّام أهدى قعبور الأغنية لكريم يونس، وآلاف الأسرى في المعتقل. لقد بات يوم 6 كانون الثاني يوماً مختلفا لدى كثير من الأسرى وأهاليهم و”الشُعوب” المتضامنة معهم. فكريم يونس المعتقل منذ العام 1983، يوم أخذ، من بين زملائه طلاب الجامعة، في بئر السبع، وهو ابن قرية عارة في شمال فلسطين، هو عميد الأسرى، أي أقدمهم في المعتقل.
قبل عامين كتبتُ مقالاً عنوانه (“كتبنا” اسم كريم على ورقة تذوب)، عن أوراق كُتِبَت بطريقة بدائية يبدو أن شباناً، أعدوها وعلّقوها على جدران في رام الله، مكتوب عليها “كريم يونس لا تنسوه”. وكتبتُ: قد تذوب ورقة هؤلاء الشبان من المطر المقبل. لكنها بحكم “العِلم الثوري” (الذي لم يفهمه العلماء بعد)، ستذوب في الأرض وستنبت ثورة، (…) “ستنفرش” ورقته البيضاء في الأرض، وتنبت دبكة، وعِلماً، وحياة، وقيادة ثورة. ها هو كريم، يصنع الكثير من معتقله، ليس فقط تأليفه كتابين في السجن، ولكنه هو ذاته أصبح أغنية وإلهاما. وسيدي أنا، كلمة لها ما بعدها.
هناك عميد آخر للأسرى، هو نائل البرغوثي.
رأيتُ نائل مرة واحدة، كنتُ مع أبنائي في محل “رُكَب”، أشهر محلات الآيس كريم، في رام الله، عندما رأيته؛ ربما العام 2013، يجلس مع زوجته الأسيرة المحررة إيمان نافع، التي قضت قرابة عشرة أعوام في الأسر. اقتحمتُ جلستهما، وصافحته، عرّفته بنفسي، وقلت له إني أحببت تحيته، وردّ بابتسامة وشبه كلمات. كان نائل قد اعتقل العام 1978، وأفرج عنه العام 2011، في صفقة تبادل الأسرى. ربما كان يناقش مع إيمان، (تزوجا عقب إطلاق سراحه مباشرة)، دراسته الجامعية، فقد بدأ يدرس التاريخ، بعد إطلاقه. ولعل حياته تُلخصها كلمات قالها يوم خطبته “كأسير محرر اعتبر ارتباطي مع أسيرة محررة انتصارا وتحديا وتجسيدا لروح الإيمان والأمل، وبداية لفتح قفل اغلق ابواب الحياة أمامنا ولكنه لم يقتل روح الإرادة والأمل لدينا، إنّه كسرٌ للقيد والسجن وتحقيق للحرية، وبداية لرحلة اخرى”. أعاد الاحتلال اعتقال نائل، دون سبب العام 2014، وما يزال في المعتقل. والعام الفائت شاهدتُ في معرض الكتاب، إيمان تقف بجانب رسومات وكتابات كتبها نائل في معتقله، كانت تشرح معاني الحياة في كل لوحة.
عندما غنى سميح شقير، “وارمي حجراً في الماء الراكد تندلع الانهار”، كأنّه يكرر كلمات ياسر عرفات أنّ دماء الشهيد تنفرش في الأرض، تماماً كنضال الأسير.
انضم عمر البرغوثي، شقيق نائل، للثورة في بيروت العام 1973، قبل عودته لفلسطين. وبعد عشر سنوات، العام 1983، انضم كريم لذات الثورة. واعتقل عمر ونائل وآخرون بعد عملية فدائية العام 1978، واحترازياً اعتقل الإسرائيليون، مجموعة شبان، كان منهم مروان البرغوثي، حيث صقل المعتقل شخصيته.
ربما لا علاقة تنظيمية مباشرة بين عمر ونائل وكريم. ولكن عمر المعتقل الآن، أيضاً، هو والد صالح وعاصم. صالح؛ اعتقله الإسرائيليون، ويقولون أنّهم قتلوه، قبل نحو شهر، يوم 12 كانون الأول 2018، ويزعمون أنه منفذ عملية فدائية. وعاصم، اعتقل يوم 8 كانون الثاني الحالي، بتهمة تنفيذ عملية مقاومة، يوم اعتقال\ اغتيال شقيقه. إذا الآن عاصم (وربما صالح)، معتقل مع والده عمر، وعمه نائل، وأشقائه؛ الكبير عاصف، والصغير محمد، وآخرين.
أليس هذا معنى أن “ينفرش” اسم كريم ونائل بالأرض؟. أليس هذا معنى الحجر الذي تندلع بعده أنهار؟! تندلع فكراً، وغناء، ومقاومة.