بقلم د. وليد القططي
كتبَ الشهيدُ عبدالله القُططي في آخر تغريدة له على صفحته في (الفيس بوك) باللهجة العامية التلقائية ما يلي: «متل كل جمعة رايح على الحدود، بس هالجمعة غير رايح متل أي شب ثائر بدافع عن وطنه وأرضه ،مو هاممنا شو مبتغى المسيرة ،وشو هدف كل تنظيم من هاد المسيرات، إلليّ يهمنا أرضنا وعرضنا ،من الآخر شاردين من مووت لموت، لعل الموت الثاني أرحم من الأول، خلصت الحكاية..».
انتهت تغريدة عبدالله الأخيرة، ثم انتهت حياته الدنيا باستشهاده، آخر فصول حكايته في الدنيا، في الجمعة العشرين لمسيرات العودة وكسر الحصار، التي حملت اسم (جمعة الحرية والحياة لغزة)، أثناء تأدية واجبه الإنساني والوطني، كمسعف متطوع في الفريق الشبابي الذي حمل اسم (نبض الحياة)، عندما حاول مع فريقه إنقاذ الجرحى الذي سقطوا قبله على أرض مخيم العودة شرق مدينة رفح بتاريخ العاشر من أغسطس الحالي.
لم يكن الشهيد عبدالله القُططي يعلم أن يوم الجمعة العشرين من مسيرات العودة المُسمّى بجمعة الحرية والحياة لغزة، سيكون اليوم الذي سينزع قناص إسرائيلي مُدجج بالسلاح والحقد حياته الدنيوية، لتتحرر روحه من سجن الجسد، المُثقل بكل هموم الدنيا، والمُكبّل بكل قيود الأرض المضروبة على غزة؛ لينال حريته الحقيقية وحياته الأبدية. ولم يكن يعرف أن فريق نبض الحياة الذي طالما أعطى نبض الحياة للجرحى في مسيرات العودة سيكون سبباً لتوّقفَ نبض حياته، ومعها ستتوّقف كل أحلامه وآماله وطموحاته، التي حملها بين جنبيه، رغم مستنقع الإحباط وبحر اليأس ومحيط العجز. ولم يكن يُدرك أن الحكاية التي تحدّث عنها سيكون هو بنفسه محور أحداثها وبطل قصتها في الجمعة العشرين لمسيرات العودة، كما كانت حكايات الشهداء الذين سبقوه على نفس الدرب، ومن ينتظر من الشهداء اللاحقين. وربما كان يعلم ويعرف ويدرك كل ذلك، بما كُشف له من حُجبٍ مستورة عنّا لالتصاقنا بالطين وإخلادنا إلى الأرض.
الشهيد المُسعف عبد الله صبري القُططي، تجاوز ربيعة الثاني والعشرين ببضعة شهور، هي كل عمرهِ الذي كَتبَهُ اللهُ تعالى له في اللوح المحفوظ، قضى معظمها- كما كل أبناء جيله- في خضم الانتفاضة الثانية، وأحداث الانقسام الدموية، وأهوال ثلاث حروب وحشية، وتبعات الحصار والحروب والانقسام والعقوبات المأساوية، وأخيراً مسيرات العودة وكسر الحصار، التي شارك فيها مُسعفاً متطوعاً في فريق نبض الحياة الشبابي، وتزامناً مع كل ذلك أنهى جميع مراحل دراسته حتى أنهى دراسته الجامعية دون أن يحضر حفل تخرّجه بعد، ولم يستلم شهاداته الجامعية بعد، لعله أراد أن يقول لنا قُبيل استشهاده، وأن يبلغنا رسالة نيابةً عن كل أبناء جيله فحواها:» لا حاجة لي بالشهادة الأرضية، إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين شهادة سماوية خيراً منها، وماذا سأصنع بالشهادة سوى الاصطفاف خلف طوابير الخريجين الواقفين على أرصفة البطالة القاتمة، أو الانضمام إلى جيوش العاطلين عن العمل التائهين وسط صحراء الفقر القاحلة، أو الالتحاق بحشود المتسوّلين على أبواب الشئون الاجتماعية والجمعيات الخيرية المذلة، أو السير على درب أفواج المُهاجرين الذين حزموا حقائب سفرهم، ولملموا ذكريات حياتهم، وطووا كُتب أحلامهم، وفروا بها هرباً من المجهول نحو المجهول.
لعلَّ مأساة الشعب الفلسطيني التي رمز إليها الشهيد عبدالله بالموت الأول، إشارة إلى المأساة التي يعيشها جيل ما بعد أوسلو الذي عاصر الانقسام، فتوّقفت حياتهم عند محطة أوسلو الكئيبة، التي لم نستطع مغادرتها إلى محطة أجمل منها، وتجمدّت طموحاتهم داخل سجن الانقسام الموحش، دون أن نفلح في تحطيم قيوده للانعتاق منه، وتحطمت آمالهم أمام ضربات موج بحرٍ لوثه العجز والفساد والحزبية. وقبل كل ذلك وأثناءه وبعده ومصدر مأساة الشعب الفلسطيني هو الكيان الصهيوني بكل جرائمه ابتداءً من احتلال فلسطين واغتصاب أرضها وتهجير شعبها...وانتهاء بحصار غزة والحروب العدوانية عليها، وسرقة أراضي الضفة وتحويلها إلى معازل مُغلقة.
عُذراً سيدي الشهيد عبدالله ما خلصت الحكاية ،صحيح أن حكايتك خلصت كما ذكرت في تغريدتك الأخيرة ،فقد انتقلت إلى حياة أكثر راحة وسكينة وطمأنينة بجوار ربك بمشيئته وكرمه وانتهت حكايتك في الدنيا. أما حكاية مئات الآلاف من شباب وشابات الوطن لم تنتهِ بعد، ولن تنتهي إلاّ بانتهاء الاحتلال وزوال الطغيان- وسينتهي حتماً بعون الله – وحتى ذلك الحين من الممكن أن نجعل نهاية حكاياتهم وختام رواياتهم أكثر سعادة وأبهى جمالاً؛ إذا ما امتلكنا الإرادة الوطنية لتجاوز مأزقي أوسلو والانقسام ،وتوحدنا حول مشروع وطني جامع يكون أهم أولوياته دعم صمود الشعب الفلسطيني ليبقى في وطنه، لاسيما الشباب مستقبل وأمل هذا الوطن.