بقلم: الدكتور محمد السعيد إدريس
لم يكن استبعاد قطاع غزة عن محتوى التقرير الاستراتيجي الذي أعده «معهد بحوث الأمن القومي الإسرائيلي» عن مستقبل إسرائيل عفوياً، بل كان مخططاً مدروساً. فالتقرير المذكور جاء في «صيغة عمل» دافعها الأساسي تجنيب إسرائيل مخاطر أي درجة من درجات احتمال ظهور «خيار الدولة الواحدة ثنائية القومية» التي تجمع بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني في دولة واحدة كبديل لخيار «حل الدولتين» الذي ترفضه إسرائيل ولا ترى كافة قواها السياسية من حل لما تعتبره «معضلة فلسطينية» سوى خيار الحكم الذاتي أو الإدارة المدنية ضمن دولة إسرائيل صاحبة السلطة والسيادة على كل أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، أو خيار «الوطن البديل» في الأردن ضمن «كونفيدرالية أردنية - فلسطينية».
فُتح الحديث عن خيار الدولة ثنائية القومية مجدداً حيث جاء على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مداعبة له مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على هامش لقائهما في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الفائت، وجاء تقرير «معهد بحوث الأمن القومي» الإسرائيلي كمحاولة إنقاذ للمستقبل الإسرائيلي من مصير أسود إذا وجد خيار الدولة ثنائية القومية أرضية تدعمه على مستويات مؤثرة دولية وإقليمية، من خلال طرح «بديل آمن» للمستقبل الإسرائيلي مضمونه الإقرار بإمكانية قيام دولة فلسطينية كاحتمال أو كخيار مستقبلي وفق الشروط التي تضمن أمن ووجود إسرائيل من «خلال صيغة عمل» أو «خطة عمل» تضمنها التقرير المذكور في مقدورها أن تسمح مستقبلاً بالوصول بالأوضاع الفلسطينية والإسرائيلية إلى حالة تسمح بانفصال سياسي وإقليمي (أرضي) واقتصادي، باعتبار أن هذا الانفصال هو «البديل الأكثر استقراراً» الذي يسمح لإسرائيل بمواجهة تحديات المستقبل بشكل أفضل، ويحافظ على طابعها وهويتها القومية (اليهودية) ومصالحها الأساسية والأمنية كدولة يهودية كما أقرها مؤخراً «قانون القومية».
التقرير المذكور يتضمن تفاصيل عن الإجراءات التي بمقدورها تهيئة الظروف للتأسيس لدولة فلسطينية في المستقبل مثل الانسحاب التدريجي من مناطق (ب) وضمها إلى منطقة (أ) لتشكل المنطقتان معاً أساس قيام هذه الدولة، ولكن ضمن شروط إسرائيلية أبرزها ضم المنطقة (ج) التي تشكل حوالي 60% من أراضي الضفة إلى إسرائيل وفرض سيطرة أمنية حصرية لإسرائيل على غور الأردن وكافة المعابر والمحاور الاستراتيجية. وكلها شروط ومطالب تتركز حول الضفة الغربية دون أي اهتمام بقطاع غزة، أو اهتمام هامشي ما يعني أن مخطط التوسع والتهويد الإسرائيلي لا يشمل قطاع غزة لسببين أولهما أن مساحته المحدودة جداً لا تسمح بأي توسع استيطاني فيه، وثانيهما الكثافة السكانية العالية التي تشكل إزعاجاً هائلاً لقادة إسرائيل، لكن هذا الاستبعاد واعتبار التقرير تطوير الأوضاع في القطاع مسؤولية دولية وإقليمية، يفتح أبواب التأويل بأن هناك مخططاً إسرائيلياً لتشجيع خيار «دولة غزة»، لكن في كل الأحوال يريد الإسرائيليون التخلص من الأعباء المقلقة للقطاع للتفرغ لمشروعهم الاستراتيجي في الضفة الغربية.
هذه هي المعضلة الإسرائيلية، هم يريدون تهويد وضم أكثر من 60% من أراضي الضفة إلى إسرائيل، لكن الإزعاج القادم من غزة يربك إكمال تنفيذ هذا المخطط، وهم على يقين أنهم لن يستطيعوا بناء «إسرائيل الكبرى» دون إيجاد حل لبؤرة التوتر التي يمثلها قطاع غزة لاستحالة التورط في قرار اجتياح القطاع عسكرياً، لأنهم سيصلون بذلك إلى الحدود الدولية لفلسطين ومن ثم العودة مجدداً إلى تحمل مسؤولية القطاع بما يعنيه ذلك من ضم لهذا الجزء الملتهب إلى كيان الدولة الإسرائيلية، وهم عاجزون في ذات الوقت عن فرض خيار التهدئة، ولعل في حالة الارتباك التي فرضت نفسها على مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر (الكابينيت) منذ أسبوعين تحمل من الدلائل ما يؤكد هذا المعنى.
فقد عقد الاجتماع، عقب جمعة اقتحام الشباب الغزاوي للساتر الحدودي لإسرائيل، لاتخاذ قرار حاسم لما يجب فعله مع القطاع، وكان التوقع أن يأتي رئيس الحكومة إلى الاجتماع برفقة كل من وزير الحرب أفيجدور ليبرمان ومعه رئيس الأركان بخطة عمل مشتركة بهذا الخصوص، لكن ما حدث هو مجيء كل من وزير الحرب ورئيس الأركان برؤى متضاربة. وزير الحرب يحكمه واقع وتحديات الانتخابات التشريعية القادمة ولذلك يدفع بخيار الحرب كخيار وحيد لكسب ثقة كتلة انتخابية كبيرة، أما رئيس الأركان وخلفه الجيش يرفضون هذا الخيار وحريصون على تجنب الحرب، ما دفع بعض الوزراء لطرح خيار وسط بين الحملة العسكرية الواحدة ورفض الجيش، وذلك بتغيير قواعد اللعبة التي فرضها شباب غزة بإصرارهم على اقتحام الساتر الترابي والالتحام بالوطن طموحاً بعودة قريبة إليه. طرح هذا الاقتراح وصاغه، كما يقول «ناحوم برنباع» في صحيفة يديعوت احرونوت، وزير الإسكان غالنت، القائد الأسبق للمنطقة الجنوبية، وهو اقتراح يربط رفع الإجراءات العسكرية بمعدل تجاوز الفلسطينيين، فإذا استمر إطلاق البالونات سيتعين تصعيد الإجراءات، وأن الهدوء في القطاع سوف يجلب التهدئة الإسرائيلية، مع إشارة إلى بوادر إغراءات طيبة تتضمن توسيع مجال الصيد وإدخال الوقود إلى القطاع.
يتابع الإسرائيليون أوضاع القطاع المربكة، كانوا في السابق مع توسيع فجوة الصدام بين السلطة الفلسطينية وحركة «حماس»، هم الآن يسعون وراء التهدئة في القطاع، والتهدئة لن تحدث في ظل تفاقم أوضاع البؤس التي ليس سببها الوحيد، كما يؤكد الإسرائيليون، القيود والضغوط والحصار الإسرائيلي، بل وأيضاً الضغوط المالية للسلطة على القطاع، واحتدام وتيرة الصراع بين السلطة و«حماس»، لذلك يبدو أنهم في إسرائيل باتوا على ثقة بجدية نصائح نيكولاي ميلادينوف، مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط التي قال فيها للإسرائيليين: «انسوا التهدئة.. في أفضل الأحوال ستحصلون على هدوء قصير قد يتطور إلى تهدئة لزمن أطول قليلاً» ما يعني بقاء الأزمة مع قطاع غزة على غير ما يأمله الإسرائيليون من تهدئة يريدون توظيفها لاستكمال مخطط ضم وتهويد معظم أراضي الضفة الغربية.
.. عن "الأهرام" المصرية