عبد الحليم قنديل
«إما أن يقتلوه، أو أن يسمموه»، كان ذلك جواب نبيل أبو ردينة على سؤال حول مصير رئيسه محمود عباس، وأبو ردينة مسؤول بارز في سلطة رام الله، هو نائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام، والأهم أنه المتحدث الرسمي للرئاسة الفلسطينية، وتوقعه بتسميم أو قتل الإسرائيليين لعباس منشور في صحيفة «الأهرام» (بتاريخ 30 يوليو/تموز 2019)، وفي سياق حوار مطول معه، قطع فيه بتصور نهاية لعباس مماثلة لما جرى مع الزعيم الراحل ياسر عرفات، مع فارق ذكره وأكد عليه، هو أن قتل عباس أسهل ألف مرة من قتل عرفات.
وأبو ردينة قريب بما يكفي من شخص الرئيس عباس، ورأيه أن الإسرائيليين بلغوا ذروة غضبهم من الرئيس الفلسطيني، ولسبب ظاهر بحسب تقديره، هو أن عباس لا يريد أن ينهي حياته بخيانة وطنية، وأنّه لن يقبل أبدا بما يسمونه «صفقة القرن»، وأنه قرر إلغاء كل الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، وأن وزراء إسرائيليين نصحوا علنا بالتخلص من عباس، ووصفوه بالإرهابي، وكلها تبدو أسبابا منطقية، تزين لإسرائيل خطوة الإقدام على قتل عباس، بحسب كلام أبو ردينة.
عرفات امتاز بقدرة فائقة على جمع المتناقضات وكان براغماتيا إلى أبعد حد، وحفظ لحركة فتح مكانتها القيادية المتميزة
ومن جهتنا، نتمنى السلامة للرئيس عباس، وإن كنا لا نرجح قتله أو تسميمه من جانب الإسرائيليين، فعباس ليس عرفات، صحيح أن عباس خلّف عرفات في القيادة الفلسطينية، وانتقل إليه الأمر في تصرف إداري لا كفاحيا، فقد كان عباس رئيسا لوزراء عرفات في أيامه الأخيرة، وكان الإسرائيليون يسمحون له بحرية الحركة، مقابل تشديد حصار عرفات في مبنى «المقاطعة»، وإلى أن جرى تسميم الزعيم الفلسطيني في ظروف غامضة، لم يكشف عنها الستار إلى الآن، رغم تشكيل لجان تحقيق تلو اللجان، ورغم إشارات عباس الضمنية إلى اتهام محمد دحلان، وفصله في ما بعد من حركة «فتح»، وانتقال دحلان للإقامة في الإمارات، وقيادته لجناح من حركة فتح، سماه «تيار الإصلاح»، ينشط أساسا في غزة، وبتفاهم ملحوظ مع حركة «حماس».
المهم، عباس سياسيا ليس عرفات، وأن فروق المكانة هائلة بما لا يقاس، صحيح أن عباس من الرعيل الأول لقادة فتح، لكن دوره لا يقارن بأدوار قادة آخرين، من نوع أبو إياد وأبو الهول وأبو جهاد، جرى اغتيالهم جميعا، ولا يقارن عباس حتى بفاروق القدومي وزير خارجية عرفات لزمن طويل، وقد كان القدومي هو القومي العربي الوحيد بين قادة فتح الأوائل، وكان أغلبهم من جماعة الإخوان المسلمين، أو على مقربة منها، وكان عرفات نفسه قريبا في شبابه من الإخوان، لكنه بنى لنفسه وبنفسه مكانة وطنية رمزية خاصة، حولته إلى عنوان جامع للشعب الفلسطيني، وإلى الرمز الأبرز لحركة التحرير الوطني الفلسطيني المعاصرة، من أوائل ستينيات القرن العشرين إلى بواكير الألفية الثانية، رغم أدوار لا تنكر لزعماء آخرين، من نوع جورج حبش مؤسس «الجبهة الشعبية»، أو الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس، لكن عرفات امتاز بقدرة فائقة على جمع المتناقضات، وكان براغماتيا إلى أبعد حد، وحفظ لحركة فتح مكانتها القيادية المتميزة إلى لحظة اغتياله بالسم، وكان بوسعه أن يجمع الأضداد تحت قيادته، من جيله، أو من أجيال توالت بعد جيله، وعلى نحو ما جمع في أيامه الأخيرة، بين عناصر تفاوض مع الإسرائيليين كمحمد دحلان ومحمود عباس، وعناصر مقاومة للاحتلال، كمروان البرغوثي أشهر أسير فلسطيني في سجون العدو الإسرائيلي إلى اليوم.
كان ياسر عرفات رمزا مجبولا بالدم، لسيرة كفاح الشعب الفلسطيني، وقد قاد كل التطورات الكبرى، من رصاصة «فتح» الأولى، إلى صدامات الأردن، إلى حرب لبنان مع الإسرائيليين وأتباعهم، إلى موسم هجرة قيادة منظمة التحرير إلى تونس، إلى قرار إعلان دولة الضفة وغزة والقدس في الجزائر، إلى خوض مقامرة أوسلو، وطورد الرجل في كل العواصم، إلى أن مات بالسم محاصرا في «مقاطعة» رام الله، وكان في كل جولة، يعلن عن رغبته وأمنياته في الشهادة، إلى أن نالها من حيث لم يحتسب، كان عرفات مناورا عظيما، عاش بالمناورة ومات بها، أفلت من فخاخ موت نصبت له مرارا، وكان كالقطط بسبع أرواح، وكان جورج حبش يتندرعلى طبع عرفات المناور، ويروج لطرفة متخيلة عن غريمه، تحكي عن ذهاب عرفات لأداء مناسك الحج، وعن تردده في أداء طقس رمي الشياطين بالجمرات، وقوله المتخيل «دعونا لا نرجم الشيطان. فقد نحتاجه في ما بعد»، كان حبش يقصد بالطرفة معنى بعينه، هو بيان طريقة تفكير وسلوك عرفات السياسي، الذي لم يتردد في الاستعانة بشياطين الإنس، وبهدف لم يحد عنه يوما، هو فتح طريق العودة لفلسطين، وقد حقق عرفات ما حقق، وأخفق في ما أخفق به، لكنه عاش ومات من أجل تحرير فلسطين، ولم يترك بندقية الكفاح المسلح، حتى في عز سريان اتفاقات أوسلو، كان في يده غصن زيتون، ويقود باليد الأخرى ما عرف في حركة فتح باسم «التنظيم السري»، وظلت تنظيمات السلاح قائمة في «فتح» إلى أن مات عرفات، في حين حرص خلفه عباس على العكس تماما، فقد ألغى كل التنظيمات المسلحة في بنيان حركة فتح، من دون أن يفكر مرة في إلغاء اتفاقية أوسلو، رغم إعلانه مرة، وتصور أن دوره محصور في إطلاق ما يسميه مبادرات السلام، والبحث عن رعاة دوليين لتسويات لا تتحقق أبدا.
والمعنى ببساطة، أن قتل الإسرائيليين لعباس بالسم أو بغيره، ما لن يحدث على الأرجح، فقد لا تمانع إسرائيل في ترك عباس يقول ما يريده، ما دامت تثق في أن الأقوال لن تتبعها أفعال، وقد جرى اتخاذ قرارات بإلغاء الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل قبل شهور طويلة، وجرى إعلان القرار في مؤسسات حركة فتح، وفي ما تبقى من هياكل منظمة التحرير، ومن دون أن ينفذ من القرارات المتخذة حرفا واحدا، وإلى أن أعاد عباس إعلان القرارات نفسها أخيرا، عقب تفجير إسرائيل لمنازل الفلسطينيين في «وادى الحمص»، ثم ترك التنفيذ إلى عمل لجنة، قيل إنه تم تشكيلها، وإنها مكلفة بدراسة الخطوات اللازمة، وقد يقال إنه لا بأس، فإن تأتي متأخرا أفضل من أن لا تأتي أبدا، لكن الخشية كلها في التفاصيل المسكونة بالشياطين، فهل يتم إلغاء التنسيق الأمني مثلا، وهو أخطر التزام للسلطة الفلسطينية في الاتفاقات مع إسرائيل، وهل يتم إيقاف مطاردة خلايا المقاومة المسلحة في الضفة الغربية؟ لا جواب واضح في إعلان عباس، ولا في ما أعقبه من شروح، كل ما هنالك هو التوجه لحركة «حماس» بالرغبة الملحة في إنهاء الانقسام الفلسطيني، وبرعاية مصر الرسمية، وهو كلام لا ضير فيه، بل هو عنوان في محله تماما، لكن السؤال البسيط المشروع، هو على أي أساس يتم التوحيد الفلسطيني من جديد، وتناسي الثارات التي تناسلت بعد رحيل عرفات، وهل يكفي أن يتفق الكل على هدف إقامة دولة فلسطينية في غزة والضفة والقدس، وقد جرى إعلان ذلك مرارا وتكرارا، ومن دون الاتفاق على برنامج موحد لتحقيق الهدف المعلن، فعباس يكره المقاومة المسلحة وسيرتها، ويتهم حماس وأخواتها بتعريض الوجود الفلسطيني لخطر ماحق بسبب المقاومة المسلحة، وسؤال المقاومة جوهري، تماما كأسئلة أخرى أوجب، من نوع وجود السلطة الفلسطينية نفسها، فوجودها من آثار الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، فهل يجرؤ عباس على حل سلطة أوسلو، والتقدم إلى إحياء منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد، وضم «حماس» و»الجهاد الإسلامي» إلى صفوفها، والذهاب إلى خطة موحدة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، حتى لو جرى الاقتصار على وسائل المقاومة الشعبية السلمية إلى حين، كلها أسئلة تبدو بديهية، ولكن بلا جواب على الإطلاق، وهو ما يفرغ إعلان الرئيس الأخير من أي محتوى، ويعيد تصويره على نحو هزلي، قد يتصور معه الرئيس عباس أنه يفاوض بطريقة أخرى، ويهدد بإلغاء الاتفاقات مع إسرائيل بغرض وحيد، هو تحسين موقفه التفاوضي، وقد كان الرجل مهندسا لاتفاق «أوسلو» سنة 1993 مع شيمعون بيريز، ووافق عرفات وقتها على «أوسلو» إلى «حين ميسرة»، ولما لم تأت الثمار الموعودة بعد خمس سنوات، كما قالت النصوص، لم يجد عرفات بدا من قلب الطاولة، ورفض الحل المخل، الذي عرض عليه في مفاوضات «كامب ديفيد» الثانية، وأشعل الأرض تحت أقدام الاحتلال برعاية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وهو ما كان سببا مباشرا في حصاره عسكريا، وإلى أن جرى قتله بالسم، مات عرفات على دين المقاومة، الذي لا يؤمن به الرئيس عباس، ولا يريد أن يضحي بمظاهر فارغة، تبقيه رئيسا لسلطة بلا سلطة، تهدد بإلغاء اتفاقات هي السبب في وجودها، وتحرم الرئيس عباس من نيل شرف الشهادة بالسم أو بدونه.