تابعت أمس من بعيد مسيرة العودة إلى قرية لوبيه في الجليل وهي بالمناسبة القرية التي قتل على أبوابها المدعو غولاني من ضباط "الهاغاناه" عام 48 وتم إطلاق اسمه على أحد الألوية في الجيش الإسرائيلي فيما بعد.
المطربة الصديقه أمل مرقص أخبرتني أن جواً عاماً بالتفاؤل كان يسود المسيرة التي ضمت ما يقرب من الثلاثين ألف مشارك. كل هؤلاء جاؤوا من أماكن مختلفة من فلسطين، تحت شعار واحد: "استقلالهم نكبتنا"، و"الكبار يموتون والصغار لا ينسون".
كنت في هذه الأثناء أتابع الصور التي كانت تأتي تباعاً من القرية حيث آلاف المشاركين وحيث وكان يرفرف العلم الفلسطيني وتصدح الأهازيج الوطنية. في حوالي الرابعة اتصل بي راديو "الشمس" من الناصره حيث أكدت ما يؤكده كل فلسطيي، وهو أننا سنسترد حقنا مهما طال الزمن وسنظل مصرّين على انتزاعه.. ومن الأسئلة التي سألها كيف يحيي الفلسطينيون في المغتربات البعيدة مناسبة الكارثة الوطنية الكبرى، أي النكبة..
هذا السؤال أعادني طويلاً إلى الوراء، إلى الأيام التي كنا نحيي فيها ذكرى نكبة بلادنا. كنا نصحو في الصباح ونرى الأعلام السوداء معلقة فوق البيوت. وكان الوالد رحمه الله يجمعنا ليخبرنا ماذا حل في تلك الأيام القاسية.
ويجب أن أعترف أني لم أدرك حقيقة آلام النكبة على الذين عاشوها إلا فيما بعد. فجيلنا ورث نتائج النكبة لكننا لم نعش تجربة الاقتلاع. وأنا أعتقد أن تجربة الاقتلاع هي الأقسى بعد الحكم على الإنسان بالموت.. بل ربما يرى البعض أن تجربة الاقتلاع أقسى من الموت نفسه، لأن الميت لا يعاني مثل الذي يعاني من الغربة كل حياته وهو مقتلع الجذور.
لقد كان علينا نحن الفلسطينيين أو أكثرنا على الأقل، أن نتجرع كأس الإقتلاع بكل مرارته. وعندما فقدنا وطننا بات من السهل أن نضطهد في أي مكان، والأقسى أن نضطهد في المحيط العربي الذي نعتقد دوماً أنه ملاذنا الآمن.
واذا كان أهل عكا يحلفون بغربتهم فقط عندما كانوا يتجاوزوا أسوار عكا فما الذي سنقوله الآن، بعدما تشتتنا في كل أرجاء الأرض؟ حتى أني قابلت مرة ثلاثة أخوة فلسطينيين يعيش كل واحد منهم في قارة، وكل واحد يحمل جنسية مختلفة..!!
كان المرحوم والدي يقول لقد أصابنا مثل ما أصاب الأرمن، ولكن حتى الأرمن صار لهم دولة تحمي أي أرمني يعيش في الخارج. وفي الفترة الأخيرة فرّ العديد من أرمن سوريا إلى أرمينيا ملاذهم الآمن. أما نحن فإلى أين نفر إن أصابنا شيء هنا أو هناك؟ وهذا الأمر ليس افتراضا بل حقيقه يعرفها الجميع سواء من خلال مأساة الفلسطينيين في العراق أو في سوريا الآن.
وفي الأسبوع الماضي فقط سمعت قصتين عن فلسطينيين يحاولوا مغادرة سوريا إلى أوروبا ويمرون من خلال ذلك إلى دول عديدة. واحد منهم مسجون في تايلند والآخر في سيرلانكا، ولا أحد منا يستطيع أن يقدم لهم ملاذاً آمناً.
قبل أعوام طويلة دعوت الفلسطينيين في الخارج إلى الأرمنة. وهذا يعني أن يؤسسوا في أمكان تواجدهم "حكم ذاتي اجتماعي ثقافي واقتصادي" كحل مؤقت إلى أن يأتي الفرج الأكبر. سمعنا بعد هذا الكلام انتقادات من الذين يعتقدون أنها فكرة عنصرية، وأنها تقلل من أهمية البعد العربي، والأمر طبعاً ليس كذلك. لكني أعتقد، وما زلت، أنه طالما نحن محرومون من السيادة في وطننا يجب أن يكون لدينا أفكاراً خلاقة لأجل حماية شعبنا في أوقات الأزمات.
ذكرى 15 أيار بالنسبة لي هي ذكرى للتفكير التأمل بما حصل لنا، وماذا يستطيع جيلنا ان يفعل. ومثلما كان يفعل والدي سأجمع أولادي وبناتي في 15 أيار وسأخبرهم ماذا حصل لوطننا في أيار، لأننا نريد للأجيال الجديدة، ليس فقط أن لا تنسى بل أن تعمل ما يؤكد ذلك.