علي جرادات
في الذكرى ال11 للانقسام، يوم الأحد الماضي، انطلقت تظاهرة حاشدة في مدينة رام الله، شارك فيها قرابة 4 آلاف متظاهر من الضفة و«مناطق 48»، طالبوا حكومة «السلطة الفلسطينية»، والرئيس الفلسطيني بالذات، برفع الإجراءات العقابية عن قطاع غزة، وتنفيذ قرارات المجلسَين المركزي والوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، المتمثلة في «تعليق» الاعتراف ب«إسرائيل»، وإلغاء اتفاق «أوسلو» والتخلص من التزاماته الأمنية والاقتصادية. استمرت التظاهرة لساعات، رفع المتظاهرون خلالها صور بعض شهداء وشهيدات مسيرات العودة السلمية، وهتفوا للوحدة الوطنية، ونددوا بمجازر الاحتلال ومذابحه الوحشية في القطاع، وأشادوا بكل أشكال المقاومة، ودعوا إلى انخراط جميع التجمعات الفلسطينية في فعاليات المواجهة المفروضة مع الاحتلال. وكان لافتاً الحضور الطاغي لجيل الشباب، والحضور الوازن لقطاعات المهنيين والمثقفين والكُتاب والصحفيين وأساتذة الجامعات. وبدورها ساهمت الفصائل المعارضة داخل منظمة التحرير في إنجاح التظاهرة، دعوة ومشاركة.
وأعلن منظمو التظاهرة، وهُم شباب، من الذكور والإناث، ومن الحزبيين وغير الحزبيين، عزمهم على تنظيم المزيد من الفعاليات الشعبية متعددة الأشكال لأجل إنهاء الانقسام، وبناء الوحدة الوطنية. وفي السياق ذاته أعلنت مجموعة كبيرة من الأسرى المحررين، من جميع الفصائل، بما فيها «فتح» و«حماس»، عزمها على إطلاق فعاليات شعبية مماثلة، في الضفة وقطاع غزة، بعد عطلة عيد الفطر المبارك.
يؤكد ما تقدم مرة أخرى، إنما بصورة جدية، وربما غير مسبوقة منذ 11 عاماً، أن الانقسام هو خيار بعض، وليس كل النخب، وبداهة، ليس خيار الشعب الذي يؤيد، ويدعم، ويلتف حول خيار الوحدة والمقاومة. كيف لا؟ وهو يتلمس مفاعيل «أوسلو» والانقسام التفكيكي التدميري، ويواجه التحديات والمخاطر الكبيرة التي تفرضها خطة «صفقة القرن» التصفوية، وتعاظم صلف الاحتلال السياسي، وارتقاء هجمته الميدانية إلى حدود الفاشية، وتسريع زحفه الاستيطاني التهويدي بصورة جنونية غير مسبوقة.
يحمل تنامي الحراك الشعبي الداعي لخيار الوحدة والمقاومة، والرافض لخيار أوسلو والانقسام، دلالات كثيرة، لعل أبرزها وأهمها:
أولاً، حالة الهدوء النسبي التي شهدتها الضفة خلال الشهرَين الأخيرَين، مقارنة بقطاع غزة، هي حالة مؤقتة قابلة للانفجار، تقدم الأمر أو تأخر. فالشعب الفلسطيني هو، ككل شعب ابتُلي باستباحات استعمار أجنبي، كالبحر ترى سطحه هادئاً، بينما عمقه يمور ويصطخب. وهذه حقيقة ينبغي أن يعرفها، ويتعامل على أساسها، ويبني مقارباته وفقاً لها، كل من تربى في ميادين المواجهة المديدة المريرة التي خاضها، ولا يزال يخوضها، هذا الشعب المكافح الصبور. لذلك تخطئ قيادة السلطة ومنظمة التحرير إذا رأت هدوء الضفة النسبي والمؤقت عكس ذلك.
ثانياً، الحراك الشعبي لرفع الإجراءات العقابية عن قطاع غزة هو تأكيد على وحدة الشعب الفلسطيني، وتعبير عن روح التآزر والتعاضد بين تجمعاته، ومنها أبناء القطاع المحاصرون، براً وجواً وبحراً، منذ 11 عاماً. لذلك تخطئ حركة «حماس» إذا رأت أنه، أي الحراك، دعماً لها ك«سلطة» منافسة ل«السلطة» في الضفة.
ثالثاً، الشعب الفلسطيني الذي ما زال يقاتل بعد 100 عام على «وعد بلفور»، و70 عاماً على النكبة، و51 عاماً على هزيمة 67، لن يستسلم، لا في الحاضر، ولا في المستقبل. فهو شعب حي مكافح، وليس شعباً زائداً، أو يمكن التضحية به أو شطبه، أياً تكن اختلالات موازين القوى، وعظمة قوة الولايات المتحدة الداعمة بالمطلق ل«إسرائيل»، آخر وأطول وأبشع احتلال في التاريخ الحديث والمعاصر. أما ظنون قادة الاحتلال القائمة على مقاربات أن الانقسام الفلسطيني دائم، وأن «ما يُفرض بالقوة يُعترف به في نهاية المطاف»، وأن «ما لا يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد من القوة»، فمحض أوهام، وأحلام يقظة، وحرث في البحر، كما برهنت، وأثبتت، وأكدت تجربة الصراع الطويلة.