هيثم أبو الغزلان
زلزل ما حصل في المنطقة العربية منذ العام 2011 كيانات ودولًا وحركات وأحزاباً؛ زادت الشروخ على الصعد كافة، أزيلت حدود، وأعيد تشكيل دول، انهارت تحالفات، وبنيت أخرى. وظل المشهد القائم فعلًا استمرار المنطقة على فوهة بركان. نُسفت تحالفات عديدة، وخلخلت تحالفات أخرى، برزت قضايا جديدة وتقدّمت بفعل فاعل على حساب القضية الفلسطينية المركزية. سادت القطيعة وتقدّمت على المشتركات، وأصبح الخطاب والممارسة السياسيان في كثير من الأحيان يتّسمان بالعنف والقطيعة، ما انعكس حروبًا وتفتيتًا وتجزئة للمُجزّأ.
في ظل تلك الأجواء اختارت حركة الجهاد الإسلامي التركيز على القضية الفلسطينية والتخفيف من غلواء التراجع عنها من جهة، أو التصويب عليها بقصد أو بدون قصد من جهة أخرى. أصابت الجهاد شظايا "الحراك العربي"، أو ما يسمى "الربيع العربي"، وشئنا أم أبينا فإن حركة الجهاد أصابتها من تلك الشظايا الكثير لموقفها المتمسّك بالقضية الفلسطينية كقضية مركزية.
ومنذ بدايات انطلاقة حركة الجهاد الإسلامي طرحت فلسطين قاسمًا مشتركًا عروبيًا وإسلاميًا وديمقراطيًا، في محاولة فهم وحل لبواعث التجاذب بين التيارين الرئيسين: العروبي والإسلامي، بعد أعوام من محاولات كل طرف منهما نفي الآخر. فاعتبر الشهيد المؤسس الدكتور فتحي الشقاقي: "فلسطين أيديولوجيا الزمن العربي والإسلامي المعاصر، بل عنوان نضال الإنسان"، و"بدون حسم الصراع على فلسطين، فإن كل محاولات الأمة للنهضة والاستقلال ستُجهض، أو تحاصر، أو تدفع الأمة تكاليفها مضاعفة".
ولذلك نلاحظ أن الوحدة كمنطلق وعنوان هي من أهم ركائز الخطاب والممارسة لدى قادة حركة الجهاد الإسلامي، كحركة إسلامية فلسطينية مقاتلة تبلورت تنظيمياً في مطلع الثمانينات داخل فلسطين المحتلة، بعد حوار فكري وسياسي امتد منذ منتصف السبعينيات في أوساط بعض الطلبة الفلسطينيين الدارسين وقتها في مصر، وشمل مسائل منهجية تتعلق بفهم الإسلام والعالم والواقع، وكيفية رؤية وفهم التاريخ بشكل عام، والتاريخ الإسلامي بشكل خاص. وهذا سهّل استيعاب ووعي أداة التغيير وصولاً إلى إدراك خصوصية فلسطين في الإشكال الإسلامي المعاصر، واعتبارها بالتالي "القضية المركزية للحركة الإسلامية والأمة الإسلامية"، وذلك استناداً للأبعاد القرآنية والتاريخية والواقعية، بهدف حل الإشكالية التي كانت قائمة: "وطنيون بلا إسلام، وإسلاميون بلا فلسطين".
ولذلك ترى الجهاد أن وجود "إسرائيل" هو لممارسة دورها في ضرب وحدة الأمة، وتحويل المعركة الحقيقية إلى ميادين وهمية تستنفد الجهد والطاقة، فبقاء هذا الكيان هو أهم وأخطر وأعنف أشكال الحرب الشاملة، بكل أبعادها التاريخية والحضارية والعقدية والفكرية والعسكرية والسياسية والاقتصادية ضد أمتنا التي لم تعد ثقافتها هي المُهدّدة، بل وجودها برمته.
ولهذا ترى الجهاد الإسلامي أن مواجهة الخطر الصهيوني يستوجب مواجهة شاملة، تحدّث عنها الأمين العام زياد النخالة (6/10/2020)، قائلًا: "إن تاريخ حركة الجهاد الإسلامي هو تاريخ تراكم إرادة القتال والجهاد، ومواجهة المشروع الصهيوني في كل مكان من فلسطين، عبر المقاومة المستمرة، وبكافة أشكالها التي لم تتوقف يوماً واحداً، حتى وصلت إلى امتلاك القدرة على قصف عاصمة الكيان الصهيوني، وكل مدنه ومستوطناته، وقد فعلت ذلك في كل مرة كانت تريد ذلك".
إن السياسة الواضحة التي تسير وفقها الجهاد تتمثّل بالرؤية والتصور الواضحين، وبالممارسة العملية المستعدة لدفع كافة الأثمان في مواجهة العدو الصهيوني، وفي مواجهة ما ينتج من "موجة تطبيع عربية مع العدو الصهيوني، هدفها إدخال المنطقة العربية بتاريخها وحضارتها بيت الطاعة الإسرائيلي".
ولهذا أشار الأمين العام زياد النخالة في خطاب الانطلاقة الجهادية الـ33 للجهاد إلى ما يحدث من موجة تطبيع، فكانت القراءة الموضوعية المستندة إلى حقائق الحق والتاريخ والجغرافيا التي قدّمها تشير إلى هدف دعاة السلام الوهم بأنهم "يريدون تفكيك المنطقة، وللأسف لقد تقدموا خطوة خطيرة"، وأن "الجامعة العربية مشلولة، ولا تستطيع حتى أن تعيد قراءة قراراتها السابقة"، ما يشير إلى "ضعف الموقف العربي الجامع، ولو في حدّه الأدنى، وقد بدا أن الكيان الصهيوني يحظى بقبول أكثر مما تحظى به القضية الفلسطينية وعدالتها".
ورغم ذلك فإن أمين عام الجهاد يعتقد أن الشعوب العربية والإسلامية هي "مع فلسطين ومع القدس"، وأن الجهاد لا تزال تراهن "على وعي شعوب الأمة في مواجهة كل المحاولات التي تريد القبول بالعدو الصهيوني كجزء من المنطقة".
أما لجهة الوحدة، فهي كمنطلق وعنوان من أهم ركائز الخطاب والممارسة لدى الحركة بقادتها وأعضائها. فقد كتب المفكر الدكتور محمد مورو: "كان الدكتور فتحي الشقاقي يحلم بحركة إسلامية معاصرة، تتجاوز فكرياً وحركياً كل الأخطاء السابقة، حركة ترى نفسها مجرد حلقة من حلقات الكفاح الإسلامي سبقتها حلقات وتتبعها حلقات، حلقة تكون طليعة للأمة وخميرة للنهضة وليست بديلاً عن الأمة، حركة تجعل التنظيم أداة وليس غاية، حركة تنطلق من اعتبار القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة الإسلامية، حركة تنفتح على الجميع انطلاقاً من ثوابتها فلا تعزل نفسها ولا تنفصم عن جذورها الفكرية والعقائدية في الوقت نفسه".
ولهذا نرى أن الشهيد الشقاقي اعتبر انتفاضة 1987، بأنّها شكّلت مخرجاً للمشروع الوطني ككل، ومدخلاً لصياغة وعي سياسي جديد، إذ كانت الانتفاضة مناسبة ملزمة للتيارات الثلاثة (الإسلامي والقومي والديمقراطي) لتعيد النظر في مواقفها المسبقة وصورتها عن الآخرين، وفرضت عليهم طبيعة المعركة الشعبية المفتوحة مع العدو، والتداخل الميداني بين الجميع، إقامة تحالفات وعلاقات بعيدة عن منهجية التكفير والاستثناء والنفي، واكتشفت الأطراف المختلفة أن نقاط التقاء تجمعها مع بعضها، وأن الإسلامي المناضل أقرب إلى اليساري أو القومي، من اليساري والقومي الذي يذهب نحو التسوية والاتفاق مع العدو.
وهذا يتساوق مع مبادرة النقاط العشرة التي أطلقها الدكتور رمضان عبد الله شلّح، وأعاد التأكيد عليها الأمين العام زياد النخالة، والتي تتمثّل "بضرورة سحب الاعتراف بالكيان الصهيوني، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، لتصبح الإطار الوطني الذي يمثّل كافة قوى الشعب الفلسطيني، والإعلان عن أن المرحلة التي يعيشها شعبنا ما زالت مرحلة تحرر وطني، وأن الأولوية هي للمقاومة، وإنهاء الوضع الراهن، وتحقيق الوحدة الوطنية على قاعدة برنامج وطني قائم على المقاومة بكافة أشكالها".
ولهذا فإن حركة الجهاد عندما شاركت بالحوارات الداخلية الفلسطينية ولقاء الأمناء العامين، كان بهدف تجاوز المرحلة الراهنة، وانطلاقًا من "ضرورة وحدة الموقف الفلسطيني"، وتأكيدًا على رؤية الجهاد الوحدوية دون التنازل عنها، أو التنازل عن "مشروع فلسطين التاريخية، وفقاً للميثاق الوطني الفلسطيني، محمياً بخلفية شرعية لا تقبل الاعتراف بـ"إسرائيل"".
إن الوحدة الوطنية على أساس برنامج وطني هي صمام الأمان للقضية الفلسطينية، ولكن في الوقت نفسه يجب أن يتم مغادرة مربع الأوهام، أو انتظار متغيرات خارجية لتحسين ظروف ثبت بالملموس أنها أضرّت بالقضية الفلسطينية...