تعاطت "إسرائيل" بمزيج من الانفعال والعصبية مع اتفاق المصالحة الفلسطينية الأخير، وما بين الحديث عن المفاجأة واستحضار الخطاب الأيدولوجي المتعنت من قبل غالبية أركان الائتلاف الحكومي مقابل الخطاب السياسي البرغماتي للأقلية الحكومية المدعومة من الأجهزة الأمنية
بدت "إسرائيل" متخبطة مرتبكة عاجزة عن بلورة موقف واضح متماسك تقنع به العالم الذي بدا بمعظمه مشجعاً للمصالحة، ومتبنياً للرواية الفلسطينية إن فيما يتعلق بإنهاء الانقسام أو بجمود عملية التسوية، وربما تحطمها على صخرة التعنت والعنجهية الإسرائيلية.
توجّه وفد منظمة التحرير الفلسطينية من رام الله إلى غزة الثلاثاء 22 نيسان بعد ساعات على انتهاء آخر جولات التفاوض الثلاثية مع الجانبين الأمريكي الإسرائيلي، وتزعم تل أبيب أن الجانب الفلسطيني لم يضعها في صورة ما يجري، وهي لم تفكر أصلاً في منع الوفد من الذهاب إلى غزة كي لا تظهر بمظهر المعرقل المباشر للمصالحة، وعلى قاعدة أن الحوارات سيكون مصيرها الفشل كسابقاتها. ومن هنا بدا النجاح من حيث المبدأ مفاجىء لإسرائيل المتغطرسة والمتعالية والتي أعطت نفسها الحق في امتلاك الفيتو على المصالحة، أو حتى بمعرفة ما يدور فى الكواليس الفلسطينية، وهو ما لم يحدث ولا يجب أن يحصل أصلاً.
ردود الفعل الإسرائيلية الأولية عبّرت إذن عن التفكير العنصري المتعالي والمنكر للواقع، وبعيداً عن حفلة السباب والشتائم العنصرية لنفتالي بينيت وجوقته خيّر رئيس الوزراء نتن ياهو الرئيس عباس بين السلام مع حماس أو السلام مع "إسرائيل" في خطاب أقل ما يقال فيه أنه تدخل فظّ في الشؤون الفلسطينية الداخلية، ناهيك عن أن "السلام" مع الدولة العبرية تحوّل إلى عملية أو مفاوضات عقيمة لا طائل أو جدوى منها.
جلسة المجلس الوزارة المصغر التي عقدت الخميس 24 نيسان لمناقشة المصالحة، وكيفية الرد عليها غلبت عليها المواقف المتطرفة لدرجة استحضار صورة من موقع تويتر للرئيس عباس مع إسماعيل هنية كتب تحتها أن أبا مازن عقد اتفاق مصالحة مع من قام بنعي أسامة بن لادن. أما في السياسة فقد قررت الحكومة رسمياً تجميد المفاوضات وفرض عقوبات اقتصادية جديدة وإضافية ضد السلطة والتجميد وليس الوقف النهائي والتام جاء إثر ضغوط من وزيرة العدل تسيبي ليفني - زعيمة حزب الحركة - ووزير المالية يئير ليبيد - زعيم حزب هناك مستقبل - الذين دعوا إلى اغتنام الفرصة ومحاولة تدجين حركة حماس للقبول بشروط الرباعية الثلاث – نبذ العنف والاعتراف بإسرائيل، والاتفاقات السابقة معها - وفي الحد الأدنى اختبار نوايا الرئيس عباس تجاه المفاوضات، وإلقاء تبعة الفشل عليه وليس على الدولة العبرية.
التقدير الأمني الحاضر دائماً في السياسة الإسرائيلية فرض نفسه أيضاً على الموقف الرسمي تجاه عملية المصالحة الفلسطينية، حيث دعت قيادة جيش الاحتلال إلى عدم تحطيم الأواني أو كسر قواعد اللعبة مع السلطة عبر فرض عقوبات قاسية ضد الفلسطينيين، لا في الضفة، ولا حتى في غزة خشية انهيار الهدوء السائد حالياً في المنطقتين، دعا الجيش كذلك إلى التريث ومراقبة تنفيذ الاتفاق واكتشاف تداعياته على "إسرائيل" خاصة في الشق الأمني، علماً أن التصور المبدئي؛ يقول: أنه لن يترك أثاراً سيئة وسلبية على الدولة العبرية أقلّه في المدى المنظور.
من هنا يمكن فهم كيف أن قرار الحكومة الإسرائيلية الإعلامي والصاخب بفرض عقوبات اقتصادية على السلطة لم ينفذ عملياً، وبقي حبراً على ورق، حيث أبلغت وزارة المالية الإسرائيلية وبشكل رسمي نظيرتها الفلسطينية الاثنين 28 نيسان أن تحويل عوائد الضرائب والجمارك ستحولكما هو معتاد بشكل شهري ما اعتبر ترجمة مباشرة لموقف الجيش والأجهزة الأمنية التي تخشى من تردي الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية وصولاً إلى الانفجار بوجه "إسرائيل"، وفي الحد الأدنى وتراجع وتيرة التنسيق الأمني مع نظيرتها في السلطة والتي تتأثر عادة بالأجواء السائدة في الشارع الفلسطيني.
دولياً تعاطت "إسرائيل" بنفس الطريقة المرتبكة والمتخبطة، ولاقت فشلاً ذريعاً في تسويق روايتها للعالم، بما في ذلك حليفتها المقرّبة الولايات المتحدة، حيث أرادت تل أبيب من المجتمع الدولي رفض المصالحة من حيث المبدأ، وقبول فكرة أن الرئيس عباس فضّل التصالح مع "الإرهاب" على التصالح مع "إسرائيل" وتحميله بالتالي مسؤولية تعثر المفاوضات وعملية التسوية برمتها، وعندما اتضح أن العالم لا يتقبّل هذه الرواية طرحت تل أبيب مطلب غير سياسى آخر تعجيزي وخيالي بربط الاعتراف بالمصالحة بإقرار حركة حماس، وليس حكومة التوافق بشروط الرباعية الثلاث، طبعاً قوبل هذا المطلب بالرفض أيضاً مع ترحيب عربي روسي صيني لاتيني صريح بالمصالحة وانفتاح أوروبي واضح واكتفاء بأن ترفض الحكومة العنف وتستمر في مساعي البحث عن اتفاق "سلام" نهائي مع "إسرائيل"، وحتى واشنطن نفسها ليست بوارد تبني موقف حكومة تل أبيب بحذافيره، وهي كما قوى دولية مؤثرة تفهم أن المصالحة ضرورة ملحة ليس فقط فلسطينياً، وإنما للاستقرار والأمن ومنع الانفجار في المنطقة برمتها، وهي ستتبنى موقفاً قريب من الموقف الأوروبي والحكم على حكومة التوافق بناء على أفعالها، وباعتبارها مترجمة لأفكار ونهج الرئيس أبو مازن أقلّه حتى الانتخابات العامة، التي كانت عامل أساسي في تفهم العالم لاتفاق المصالحة الأخير وسيكون من الصعوبة بمكان عليه رفض التعاطى مع نتائجها - أي كانت - كما حصل بعد انتخابات يناير 2006.
المعطيات المفاهيم والحقائق السابقة يجب أن تكون مشجعة للفلسطينيين، من أجل المضي قدماً في إنهاء الانقسام ترتيب البيت الداخلي، توحيد المؤسسات، والتوافق على برنامج أو لغة سياسية يفهمها العالم ويدعمها، واستغلال تبنيه وقبوله للرواية الفلسطينية، ليس فقط فيما يتعلق بالمصالحة، وإنما بالمفاوضات وفكرة التسوية برمتها لفضح إسرائيل وكشف القناع عن وجهها العنصري وعن تحولها بشكل تدريجي وبطيء، ولكن مستمر إلى نموذج مشابه لنموذج النظام العنصري السابق في جنوب إفريقيا. هذه المهمة ليست سهلة على الجانب الفلسطيني، ولكنها ليست مستحيلة أيضاً، وهي تقتضي أداءً مختلفاً تجاه "إسرائيل" وتجاه العالم، أيضاً الذي قد يتقبل فكرة تحوّل الدولة العبرية إلى كيان فصل عنصرى وفق النموذج الجنوب الإفريقى، ولكنه لن يتقبّل أبداً التعاطي معها وفق النموذج الفيتنامي ولا حتى الجزائري.