منعت القيادة المصرية الأسبوع الماضي عقد لقاء بين مسؤول ملف المصالحة في حركة "فتح" عزام الأحمد ونظيره من حركة "حماس" موسى أبو مرزوق، وأبلغت الأخير أنه يزور القاهرة للعلاج وليس لعقد لقاءات سياسية،
علماً أنها الراعي الرسمي للمصالحة، والضامن لورقة أو وثيقة القاهرة أيار 2011، التي تجري العملية على أساسها. كما كان يفترض باللقاء أن يمهّد لزيارة وفد من منظمة التحرير إلى غزة من أجل التباحث مع قيادة "حماس" حول تفعيل عمل حكومة التوافق، وحلّ مشكلة موظفي الحكومة السابقة بما يكفل الانكباب على الملفات أو القضايا الأصعب مثل فتح المعابر، رفع الحصار، وتسريع عملية إعادة إعمار ما دمّرته حرب غزة الأخيرة، والحروب التي سبقتها.
موقف القاهرة يعني ببساطة وبدون لفّ أو دوران أنها نفضت يدها، ولو مؤقتاً من عملية المصالحة الفلسطينية، علماً أن ثمة ملفات معقدة وحساسة مرتبطة أو ذات صلة مباشرة بها مثل ملف الأمن، حيث يفترض ان يتم تشكيل لجنة أمنية عربية عليا بقيادة مصر للإشراف على دمج وتوحيد الأجهزة الأمنية، وتسهيل التوافق الفلسطيني على إعادة بنائها وفق أسس وطنية ومهنية سليمة ونزيهة.
نفض القيادة المصرية يدها لا يقتصر على المصالحة، فهي تخلت كذلك عن وساطتها غير المباشرة بين "إسرائيل" والفصائل الفلسطينية، وتحديداً حماس، بما يتعلق بالتهدئة، رفع الحصار، فتح المعابر، تبادل الأسرى؛ وقضيتي الميناء والمطار، بما يهدر أو يضيع كل تضحيات الحرب السابقة والحروب التي سبقتها، وهي رفضت استضافة اللقاءات الفلسطينية الإسرائيلية غير المباشرة في تشرين أول/ أكتوبر الماضي بحجة الانشغال بالأوضاع الأمنية في سيناء، ولم تحدّد ولن تحدّد موعداً آخر. وبعد منع لقاء المصالحة الأخير يمكن القول أنها نفضت يدها من الملف الفلسطيني بشكل عام ببعديه الفلسطيني – الفلسطيني، والفلسطيني – الإسرائيلي.
التخلّي المصري عن ملف المصالحة، وحتى الملف الفلسطيني بشكل عام يأتي في ظل الحديث عن تطور لافت ونوعي للعلاقات مع "إسرائيل" التي تزخر صحافتها بالتقارير، والتعليقات والتصريحات الرسمية عن التنسيق الأمني المتين والراسخ مع القاهرة في ملفات عدة فلسطينية وإقليمية، وعن دعم غير محدود من قبل "تل أبيب" للنظام، ليس فقط في حربه ضد الجماعات المسلحة في سيناء، وإنما أيضاً في سياق توفير الحماية السياسية والدعم المالي والعسكري له من قبل الكونغرس الأمريكي التي تتمتع "إسرائيل" فيه بنفوذ كبير وتتندر أوساطها أنه يفوق حتى الدعم الذي يتمتع به حتى الرئيس أوباما نفسه.
أسوأ من كل هذا إن التخلّي المصري يأتي في ظل الحملة الإعلامية المسعورة ضد حركة حماس وغزة، وشيطنة هذه الأخيرة وكأنها باتت معقل للإرهاب في المنطقة. وتتصاعد الوقاحة لتصل إلى حد الدعوة لضرب غزة تماماً، كما جرى في مدينة درنة الليبية، وهذا الأمر بحدّ ذاته يعبر عن ضعف ومأزق النظام الاستبدادي الذي يتجه إلى الفاشية، وإذا ما تحوّل الجنون إلى واقع، وتم قصف القطاع الصغير والمحاصر فعلاً، فإن الجيش المصري لن يحقق ما عجز عنه جيش الاحتلال من جهة. ومن جهة أخرى، ستتعمّق أزمة النظام بل أزماته الداخلية والخارجية، على حد سواء.
فلسطينياً يفترض أن يخلق تخلّي النظام المصري عن الملف الفلسطيني بأبعاده المختلفة الدافع لاستخلاص عميق وجدّي للعبر. وإذا كان اتفاق الشاطىء في نيسان/ أبريل من العام الماضي كان بمثابة استخلاص أو فهم جزئي لحقيقة الافتقاد إلى وسيط عربي جدّي ونزيه ومتفرغ في عملية المصالحة، فإن المستجد الأخير يجب أن يدفع باتجاه الاستنتاج الصحيح والكامل. الكرة باتت في أيدي الفلسطينيين وعلى هؤلاء الاعتماد على أنفسهم وتوافقهم وتصالحهم جدير وكافي لإجبار الآخرين على التساوق أو التجاوب مع هذا التفاهم. وفي السياق حلّ الأزمات أو المشكلات المستعصية الناتجة عن الانقسام وعلى رأسها رفع الحصار وإعادة الإعمار وتوحيد الجهازين السياسي والإداري.
على النخبة السياسية "فتح" و"حماس" تحديداً مواجهة الواقع بشجاعة، فلا وسيط عربي أو إقليمي حاضر ومناسب، واتفاق القاهرة - أيار 2011 - ربما تقادم وبات بحاجة إلى تحديث فلا أمل في رفع الحصار أو إعادة الإعمار أو حتى إجراء الانتخابات إلا بسيطرة كاملة للسلطة على المعابر ومحيطها، وحكماً حدود غزة مع مصر والأراضي المحتلة، وعلى عكس ما هو ظاهر لا يقتضي الأمر أو يتطلب شجاعة من "حماس" فقط، وإنما من "فتح" والرئيس محمود عباس شخصياً، ولا بد من شراكة سياسية كاملة في منظمة التحرير تحديداً مقابل تنازل "حماس" عن سيطرتها الأمنية والإدارية في غزة، ولو بشكل تدريجي وضمن جدول زمني معقول وواقعي، يتضمن حلّ مشكلة الموظفين وأزمات القطاع الأخرى مثل الكهرباء المعابر وإعادة الإعمار، والأهم من ذلك ربما الاستفادة من المدى الزمني المتاح والطويل لترتيب البيت الوطني وإجراء الانتخابات إعادة وبناء منظمة التحرير وبلورة استراتيجية وطنية جامعة تقطع مع ذهنية التسوية، كما خوض الحروب التقليدية أو شبه التقليدية مع "إسرائيل" وإدارة الصراع بوتيرة هادئة وفق نموذج أقرب إلى نموذج الانتفاضة الأولى بتحديث يستوعب وجود السلطة ومسؤولياتها وانتظار جلاء المتغيرات والعواصف الإقليمية، وهو ما لن يحدث لا على المدى القصير، ولا حتى المتوسط وببساطة وباختصار أمامنا فسحة زمنية واسعة يجب أن نستغلها بتعقّل وحكمة وصبر والاعتماد على أنفسنا أولاً وأخيراً.
* كاتب فلسطيني، مدير مركز شرق المتوسط لللدراسات والاعلام- بيروت