سمير الزبن
كان الانتقال من النظام السياسي الفلسطيني الذي شكلته منظمة التحرير إلى النظام السياسي المبني على الأرض الفلسطينية، عبر صيغة اتفاقات أوسلو في جانبٍ من جوانبه، محاولة للخروج من المأزق الذي كان يعاني منه النظام السياسي المفتقد إلى الإقليم الجغرافي الذي يعود إليه. وكانت العودة إلى الأراضي الفلسطينية حلا، بشكل أو بآخر لمشكلة الإقليم، ولو على حساب تشظي المشروع الوطني الفلسطيني. لكن هذا الحل لم يجب على الأسئلة الفلسطينية التاريخية، وأدخل النظام السياسي الجديد والقديم في مشكلاتٍ جديدة غير قابلة للحل. ففي وقتٍ تم الانتقال فيه إلى الإقليم الفلسطيني، فقد النظام السياسي المبني على قاعدة "الوطن المعنوي" الذي شكلت منظمة التحرير معانيه التي ترسخت عبر التجربة الفلسطينية، من دون أن تنتقل هذه المعاني إلى الوطن الجغرافي المجزأ الذي ظهر بفعل اتفاقات أوسلو. وما زاد من تعقيد المشكلات وصول خيار المفاوضات مع إسرائيل إلى طريق مسدود وانفجار الانتفاضة الثانية، وقد ظهر هذا التعقيد، وبشكل ملموس، من خلال الأداء السياسي الفلسطيني المحكوم باتفاقات أوسلو التي طرحت، بصفتها تحولا عميقا ونوعيا في التجربة الفلسطينية، سؤالا عن مستقبل النظام السياسي الفلسطيني، ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني وآفاقه، وأكدته الانتفاضة والقيود التي ظهرت على حركة القيادة الفلسطينية. وجاءت وفاة الرئيس ياسر عرفات، وبعدها الاقتتال والانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني، وانفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتفرد حركة حماس بحكمه، لتجعل سؤالي النظام السياسي الفلسطيني والمشروع الوطني أكثر إلحاحا، من دون أن تجد إجابة عنهما أو حتى محاولة القوى السياسية الفلسطينية المركزية الإجابة عنهما.
شكل غياب عرفات متغيرا كبيرا في الساحة الفلسطينية، إذ لم يكن الراحل شخصا مركزيا في
"كل البدائل للرئيس عباس رديئة فلا يمكن لنظام سياسي مريض أن يأتي ببدائل أفضل" النظام السياسي الفلسطيني والقائد الفلسطيني الأول فحسب، بل الرجل الذي طبع النظام السياسي الفلسطيني الحديث بطابعه الشخصي إلى حد كبير أيضا، كما طبع تحولات كثيرة حاسمة في التجربة الفلسطينية المعاصرة بطابعه الشخصي. بنى النظام السياسي الفلسطيني على مقاسه، وساعده في ذلك بقاؤه على رأس القيادة الفلسطينية أربعة عقود، إضافة إلى المكانة الرمزية التي حققها خلال هذه الفترة الطويلة من وقوفه على رأس النضال الفلسطيني. وبحكم الوزن الاستثنائي للرجل في التجربة الفلسطينية، على الرغم من كل الملاحظات والانتقادات التي كانت توجه إليه، دخل النظام السياسي بعد عرفات في مرحلة ترهلٍ وتفكّكٍ وانكشاف، كان مؤشره الأساسي الانقسام الفلسطيني الذي عبر عن دخول المشروع الوطني مأزقا حادا.
شكل عرفات حجر الزاوية في النظام السياسي الفلسطيني الذي بناه، وجاءت هذه المكانة والقوة، في الأساس، في جمعه الصلاحيات الكثيرة وتركيزها بيده، من القرارات التاريخية، حتى تعيين الموظفين الصغار في منظمة التحرير ولاحقا في السلطة الوطنية، وكان إجماع القوى الفلسطينية عليه واحدا من مصادر القوة التي تمتع بها. وفي الوقت نفسه، كان عرفات نفسه، بوزنه الاستثنائي في الساحة الفلسطينية، واحدا من عوامل انسداد النظام السياسي أمام التغيير خلال عهده، فقد اختلفت القوى الرئيسية في الساحة الفلسطينية معه، لكنها عمليا "لم تختلف عليه"، على حد تعبير شهير للمعارض الراحل جورج حبش. ولذلك ظهر دائما بصفته رجلا بلا بديل، وكان السؤال الأساسي الذي طُرح بعد غيابه: هل في وسع الساحة الفلسطينية أن تنجب قيادة وطنية جديدة تملأ الفراغ الذي تركه؟
لم يستطع الرئيس محمود عباس سد الفراغ الذي تركه عرفات، ولم يستطع أن يصنع فرقا بعد وفاة الرجل. على العكس، سرعان ما تداعى الوضع الفلسطيني، وانكشفت هشاشته أكثر فأكثر، وأصبح الصراع الفلسطيني الداخلي مركزيا أكثر من الصراع مع إسرائيل. ودخل النظام السياسي الفلسطيني في مرحلة تفكّك مع وقف العمليات الانتخابية، وبقاء الرئيس عباس على رأس السلطة والمنظمة من دون تجديد شرعيته، عبر الانتخابات. وقد كان المجلس الوطني الذي عُقد قبل أسابيع أقرب إلى المهزلة منه إلى إعادة تجديد الشرعية للرجل.
وكانت الانتخابات التعدّدية في العام 2006 قد شكلت أهم مانح للشرعية للقوى السياسية الفلسطينية. وعلى أهميتها، إلا أن تلك الانتخابات لم تتحوّل إلى الموقع الأساسي لإدارة الصراع بين القوى السياسية، لذلك سرعان ما وقع الصدام المسلح بين حركتي حماس وفتح في قطاع غزة بعد أشهر من الانتخابات. وعدم توافق القوى السياسية الفلسطينية على الآلية الديمقراطية لحل الخلافات، ولمنح المشروعية بشكل نهائي لها يكون مدخلا لإنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني، أدخل الساحة السياسية الفلسطينية في دوامة صراع داخلي مرير، لم تخرج منه بعد.
مع تحطيم الشرعية الانتخابية بالاقتتال الداخلي، تم التراجع إلى شرعيات قديمة، شرعية
"النظام السياسي الفلسطيني دخل منذ سنوات غرفة العناية المشددة" تاريخية عند حركة فتح وشرعية كفاحية عند حركة حماس. وقد جاء عباس إلى الرئاسة ممثلا للقيادة التاريخية للحركة الوطنية الفلسطينية، لكن بعد أن فكّكت هذه القيادة (عباس شريك أساسي في هذا التفكيك قبل أن يصبح رئيسا) المشروع الوطني الفلسطيني، من دون أن تبني مشروعا آخر. وبذلك باتت الساحة الفلسطينية بلا مشروع وطني، وأقرب إلى دكانٍ يديرها رئيس صادر كل الصلاحيات، واعتبر نفسه ممثلا للشرعية، من دون أن يكون له دور، وأحيانا من دون أن يكون له موقف مما يجري على الساحة الفلسطينية. كانت فترة سلطة عباس عنوانا أخيرا للتفكك الفلسطيني، وهو، في نهاية المطاف، وإن طالت فترة سلطته، سيكون عنوانا للمرحلة الانتقالية بين القيادة التاريخية ومافيات حركة فتح، سيأتي منها المرشّح لخلافة عباس. وهذا يعني سياسيا الانتقال من المشروع الوطني الفلسطيني الحالم بوطن لجميع الفلسطينيين في كل مكان إلى إعادة إحياء روابط القرى الإسرائيلية، عبر مافيات السلطة التي رعتها إسرائيل في ربع قرن تلا اتفاقات أوسلو.
قبل أن يدخل الرئيس عباس إلى المشفى مريضا، وبدء التكهنات عن الخليفة المحتمل، كان النظام السياسي الفلسطيني قد دخل غرفة العناية المشددة قبل ذلك بسنوات. ولا نمثل دور العرّافة في القول إن كل البدائل للرئيس عباس رديئة. فببساطة، لا يمكن لنظام سياسي مريض، ويقبع في العناية المشدّدة، أن يأتي ببدائل أفضل من القيادات الفلسطينية الكارثية التي نراها اليوم.