نبيل السهلي
يلاحظ المتابع لشؤون القضية الفلسطينية، منذ عام 1948، أن العرب، ومن ضمنهم الفلسطينيون، لم يؤرخوا لحرب ذلك العام بشكلٍ يرقى إلى حجم الكارثة التي حلت بالفلسطينيين، وهويتهم الوطنية، بعد النكبة، بيد أن ذلك لم يمنع، في الوقت نفسه، من ظهور كتاباتٍ عربية عن الحرب، لكنها بقيت في حدودها الدنيا، بعيدةً عن العمل البحثي الجاد من جهة، وعدم القدرة على إيصال الحقيقة إلى خارج الحدود من جهة أخرى. وقد جعل هذا الأمر الرواية الإسرائيلية المزيفة للحرب، وما نتج عنها، تسود في الغرب، على مستوى صنّاع القرار، ومنظمات المجتمع المدني بشكل أقل. وقد دفعت بهذا الاتجاه قدرة إسرائيل وتحالفاتها مع الدول الاستعمارية التي مكّنتها من الحفاظ على قوتها المحلية، السياسية والعسكرية والدبلوماسية والإعلامية، وعزّزت ذلك المؤسسات الصهيونية المختلفة، خصوصا الوكالة اليهودية ورأس المال اليهودي المنظم لخدمة الرواية والدعاية الإسرائيلية منذ قيام إسرائيل في 1948.
ولهذا بات ضروريا، بعد سبعين عاما على نكبة الفلسطينيين الكبرى (1948-2018)، تسجيل ذاكرة أهلها تاريخ أهم مرحلة في قضية وطنهم، ما يتطلب تأسيس عمل مؤسسي فلسطيني حقيقي جامع، يتم من خلاله البدء في تسجيل ذاكرة كبار السن من اللاجئين. ولهذه العملية أهمية خاصة، لأسباب عديدة، في مقدمتها نسبة الذين سيتم استطلاع آرائهم، وتسجيل ذاكرتهم لا تتعدى 3% من مجموع اللاجئين الفلسطينيين. وسيجعلنا تأجيل عملية التسجيل عبر عمل مؤسسي، وليس فرديا كما هو حاصل، نعتمد في كتابة تاريخنا على ما يؤرّخ له الإسرائيليون، حيث سادت حتى اللحظة الرواية الإسرائيلية لحرب عام 1948 وتداعياتها، وكذلك لعمليات طرد العرب والسيطرة على أرضهم، وتفاصيل المجازر في المدن والقرى الفلسطينية.
وفي مشاركتي باحثا منذ العام 1982 إلى 2007، في المسوح الميدانية لمكتب الإحصاء الفلسطيني في مناطق وجود اللاجئين الفلسطينيين المختلفة، تلمست أهمية تسجيل الذاكرة والتأكيد على ذلك من شرائح فلسطينية عديدة، خصوصا عند الحديث عن النكبة والقرية والأهل قبل 1948، فالذاكرة تُشطب بعد سنوات بفعل التقدم في السن، وتراجع نسبة القادرين من اللاجئين الفلسطينيين على تسجيل ذاكرتهم. ويمكن القول إن الأعمال التي تمت لتسجيل ذاكرة اللاجئين في أماكن وجودهم بمثابة تجربة قبلية، خصوصا في ظل عدم بروز مؤسسة متكاملة للقيام بذلك عبر تجميع الجهود وتوحيد الأهداف والرؤى.
تم بقوة البطش والمجازر دفع غالبية الفلسطينيين خارج أرضهم (61%) من إجمالي مجموع الشعب الفلسطيني في 15 مايو/ أيار 1948، ليصبحوا في العام 2018 ستة ملايين لاجئ في المنافي القريبة، ما أدى إلى تمزيق الوحدة الاجتماعية. ولم يتم التأريخ جيدا للنكبة وتداعياتها وآثارها المختلفة، بل تم الاعتماد كثيرا على الرواية الإسرائيلية التي كان لها حضورها، وبالتالي غياب رواية الطرف الضحية، أي اللاجئين الذين احتلت أرضهم وطردوا منها، وأقيمت عليها دولة إسرائيل في ظروف دولية وإقليمية معقدة.
وقد تكون ورشات العمل التي دعت إليها جهات فلسطينية جامعية وبحثية وخاصة، في الداخل والشتات، مقدماتٍ لانطلاقة حقيقية لعمل مؤسسي جاد لتسجيل الذاكرة الفلسطينية، وبروز حقيقي لرواية فلسطينية متكاملةٍ بشأن النكبة وتداعياتها. وقد دلت النتائج على نية ثلةٍ من الشعب الفلسطيني ومؤسساته للانطلاق نحو تسجيل الحقيقة، وفق عمل مؤسسي جاد، يرقى إلى حجم الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني، نتيجة ارتكاب أفظع المجازر المرتكبة بحقه، ناهيك عن التحدّي مع الرواية الإسرائيلية الخادعة للتاريخ والمزيفة له في الوقت نفسه، ويمكن إجمال أهم توصيات الندوات وورشات العمل بعد اتفاقات أوسلو، والتي كانت تحت شعار الرواية الشفوية لكبار السن من الفلسطينيين عن النكبة:
ضرورة تبادل الخبرات، والاستفادة من التجارب الحية في المناطق التي تجاوزت عقدة المؤسسة والتمويل والتعاطي الأكاديمي لمشاريع تسجيل الذاكرة الفلسطينية. وجود فجوات كبيرة في المصطلحات، نتيجة التفاوت الكبير في التحصيل العلمي، بيد أن ذلك لم يمنع من ضرورة وضع مصطلحات جامعة في شبكة التاريخ الشفوي، وكل شهادة تم تسجيلها، بغض النظر عن الباحث، إنما تخدم أسئلة مطروحةً في السياسة والاقتصاد والتاريخ الفلسطيني، ناهيك عن أنها جزء من رواية فلسطينية في مواجهة الروايات والسرديات الصهيونية المدروسة لطمس حقائق التاريخ والجغرافيا في فلسطين وتشويهها.
ويبقى القول إن العمل من أجل تأسيس شبكة تاريخ شفوي فلسطينية موحدة للداخل الفلسطيني والشتات ضروري. وهذا يتطلب الاستمرار في بناء المؤسسة الجامعة من خلال حصر أسماء الباحثين والمؤسسات التي عملت في موضوعة تسجيل الذاكرة الشفوية الفلسطينية، بغية صياغة رواية فلسطينية حقيقية لمواجهة زيف الرواية الإسرائيلية للنكبة. كما يتطلب الأمر معرفة (وتسجيل) السيرة الذاتية للباحثين، والمؤسسات ذات الصلة، وبداية الألف ميل تبدأ بخطوة.