Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

ثوراتنا التي لم تكتمل

زياد ابحيص

ما يحصل في تونس يدفع للاستنتاج بأن الديمقراطية محرمة على القوى الإسلامية، وهذا صحيح في وقتنا الحالي، لكنه لربما يكون تجلياً لحقيقة أهم وأعظم، يحجبها الاكتفاء برؤية بعضها.

لعل الأزمة المركزية التي نعيشها منذ نشأة الدولة العربية القطرية الحديثة هي أزمة الإرادة: أن لا تُحكم هذه الدول بإرادة شعوبها ولهذا كانت التجزئة وزراعة الكيان السرطاني الصهيوني وشراء النخب والولاءات و"المعونات" العسكرية السخية. ليست الأزمة حقيقة في أن تكون لنا أنظمة ديمقراطية فحسب، بل الأزمة في أن تتولى الحكم نخب تمثل الإرادة السياسية لشعوب منطقتنا، تحمل قيمها وتسعى لتحقيق تطلعاتها، سواء أخذت تلك النخب شكل حزب واحد أو قيادة عسكرية أو ثورة تنتهي بديمقراطية هشة.

تتجلى أدوات إجهاض هذه الإرادة بشكل يناسب كل قطر: فهي طائفية حيث المجتمعات المتنوعة، وقبلية حيث المجتمع المتجانس، أو حكم عسكر حيث حجم المؤسسة العسكرية يسمح. 

معضلتنا المركزية هي الإرادة الخارجية القادرة على فرض نفسها لإجهاض إرادتنا؛ لذلك لا يعود غريباً أن من يقود الثورة المضادة هو نفسه من يطبع مع الكيان الصهيوني وهو نفسه من يستعين في التطبيق برجل أمن فلسطيني كان يعمل كلباً بوليسياً عند الإرادة الخارجية الصهيونية، والحقيقة أن هذا الشخص مبالغ جداً في دوره وإمكاناته، وأن التطبيق تتولاه طبقة متجانسة ومتعاونة من الكلاب البوليسية قد تكون الكيان الموحد الوحيد في عالم التجزئة المزمنة العربي.

هذا لا يلغي طبعاً أن هناك قضايا محقة ومهمة غير تحدي الإرادة الأجنبية، كالنهضة التي يجري اختزالها بالعناوين المعيشية –في انعكاس لرؤية الإرادة الاستعمارية ذاتها التي ترى فينا أفواهاً جائعة تنتظر إطعامها ولسنا شعوباً حية قادرة على النهضة، والوحدة التي تسمح لنا أن نصبح كياناً له وزن ما على خريطة العالم، والهوية التي فُتح باب البحث فيها تحت وطأة الهزيمة التاريخية لبقايا الامبراطورية الكبرى التي كانت تجمع بلادنا معاً على مدى أربعمئة عامٍ متتالية؛ لكنه يطرح وبإلحاح ضرورة التفكير في الأولويات، وبأن الحسم مع الإرادة الخارجية، واستعادة الحد الأدنى من استقلال الإرادة هو المتطلب الأول للإجابة على بقية الأسئلة، فما لم تكن إرادتنا مستقلة فكيف لنا أن نستخدم مقدراتنا لنهضتنا؟! وكيف يمكن أن نوحد جهودنا أو حتى أن نتكامل فيها؟! وما لم تكن إرادتنا مستقلة فهل يمكن حقاً أن نفتح حواراً أصيلاً حول هويتنا؟ أم يمسي فتح هذا السؤال مساحة مفتوحة لمشرط الإرادة الخارجية كي يُمعن فينا تمزيقاً؟!

إذا ما أقررنا بهذا الترتيب الضروري للأولويات فإن ثوراتنا ستكتسب معنىً مختلفاً: فهدفها بالضرورة أن تستعيد كل مساحة ممكنة من إرادتنا، هدفها أن نستعيد زراعة ما نأكل وحياكة ما نلبس، أن تخرج من دوامة التبعية الاقتصادية بالاعتماد على الذات ومد جسور التكامل مع بقية المقهورين لعل عولمة الجنوب تفتح بوابة استقلال في وجه عولمة الشمال، أن نستعيد مناهجنا ومؤسساتنا التعليمية وننتزعها من وطأة التمويل الأجنبي، وأن نستعيد مؤسساتنا الأمنية من داخل شبكة التنسيق الوظيفية مع السي آي إيه، وأن نخرج جيوشنا من وطأة "المساعدة" العسكرية الأمريكية وما تعنيه من شراء للولاء وغسل للأدمغة؛ باختصار أن نقف في وجه النفوذ الأمريكي والأوروبي والصهيوني المتغول في بلادنا...

هنا تمسي فلسطين جزءاً عضوياً من كل ثورة، ولا تعود عبئاً على أولويات محلية متوهمة، ويمسي فتح علاقاتنا البينية لنصبح أكثر اعتماداً على جوارنا بدل اعتمادنا على الغرب ضرورة حيوية فنعيد بذلك تمتين جسور تسمح بالحد الأدنى من الوحدة، بل تمسي وحدة صف القوى السياسية الداخلية متطلباً ضرورياً أمام إرادة خارجية متربصة، وتتقلص المساحة أمام تضخم الخلافات الأيديولوجية وتورّم الخلافات الصغيرة؛ فتشكل الثورة في طريقها لاستعادة الإرادة أرضيةً تؤسس للإجابة على أسئلة النهضة والوحدة والهوية، ولا تعود بوابة لانفجارها.

إن كان من درس مركزي يمكن استنتاجه من موجة الثورات العربية وموجة الردة عليها عبر عقدٍ مضى فهو أن مفتاح الثورة هو أن تكون قطيعةً جذرية مع الإرادة الاستعمارية الغربية، وانفتاحاً على كل ما يمثل إرادة شعبنا وأمتنا وإن كان مختلفاً، ومحاولةً لفتح أفق عبر الرهان على حلف المقهورين وعلى تناقضات القوى الكبرى المناهضة للولايات المتحدة، وهو طريق لربما يشكل نقيضاً لما سارت عليه معظم النخب التي قادت ثوراتنا السابقة، والتي قادتها بحكم الأمر الواقع ولم تنظر لها أو تنشئها ... وهذا يحتاج لمساحته الخاصة من النقاش.