حسن شامي
في يوم واحد، أو يومين، قتلت القوات الإسرائيلية المرابطة على التلال المشرفة على الحدود بين قطاع غزة والدولة العبرية ستين فلسطينياً وجرحت أكثر من ألفين. كان هؤلاء كلهم في عداد عشرات آلاف المشاركين في مسيرات العودة بمناسبة الذكرى السبعين للنكبة. هناك توافق غير معهود في وسائل الإعلام وفي تعليقات وتصريحات المسؤولين، على أن الضحايا، مثلهم مثل المتظاهرين، كانوا من المدنيين المكشوفين والعزل. إنها فعلاً مجزرة. ومن نوع خاص. ذلك أن هذا العدد الكبير من الضحايا لم يكن حصيلة مجابهة مباشرة بين قوى مسلحة ولا حتى بين متظاهرين سلميين وقوة أمنية شرسة من الطراز المعروف في النظم التسلطية والاستبدادية. وقد تسنى لنا، بفضل تقنيات وآلات التصوير المزدهرة والمدقرطة، أن نرى أفراداً يسقطون فجأة لا بسبب سكتة قلبية أو جلطة دماغية كما يخيل للناظر، بل إثر إصابتهم برصاص مفاجئ ياتي أشبه بالعقاب التوراتي الصاعق الآتي من أمكنة مجهولة ومرتفعة على أي حال حتى وإن كانت أدنى من السماء. مع أن المقتلة هذه كانت أشبه بحفلة صيد مصورة فقد تفادى المسؤولون في عواصم القرار استخدام صفة المجزرة لدى انتقادهم أو إدانتهم القوة المفرطة الإسرائيلية.
يمكننا بالطبع أن نضع جانباً تصريحات كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية، خصوصاً مندوبتهم في الأمم المتحدة ومجلس الأمن. فهذه الأخيرة رأت أن القوات الإسرائيلية أفصحت عن قدرة جبارة على ضبط النفس والاكتفاء بقدر مقبول من القتل. وإذا أضفنا هذا النوع من التصريحات العبقرية إلى تصريحات مسؤولين أميركيين تحدثوا عن مسؤولية حركة حماس عما حدث نكون حيال تظهير غير معهود لمبررات حفلة قتل مكشوفة ومعلنة. هناك شيء جديد بعض الشيء في التسويق الدعوي الإسرائيلي لحفلة القتل. فالحرص الحمساوي والفلسطيني على سلمية التظاهرات قرب الشريط الحدودي بين غزة وإسرائيل استدعى من مسؤولي ومؤيدي دولة الاحتلال جهداً دعوياً جذرياً لرفع الحرج عن صورة عدم التكافؤ الصارخ بين عنجهية قوة الاحتلال وبين تعبير فلسطيني سلمي عن التشبث بأرض الآباء والأجداد التاريخية. فالاتهام الإسرائيلي لحماس بأنها تسعى إلى تدمير إسرائيل يخاطب بالدرجة الأولى الرأي العام الغربي وهو أصلاً مثقل بأحكام الأبلسة حيال حماس وحيال ظواهر الإسلام السياسي عموماً.
ثمة شيء جديد في المشهد الحالي. فهناك ما يؤشر إلى عودة الصراع إلى المربع الأول، ذاك الذي تواجه فيه الفلسطينيون والقوات الصهيونية قبل صدور قرار التقسيم العتيد وتحت أنظار القوة الوحيدة الراعية للنزاع ولاجتراح الحل المناسب لمشكلة كرّس وعد بلفور وجه تطابقها مع السيطرة الكولونيالية والهيمنة الامبريالية. لقد سالت بالفعل مياه كثيرة تحت الجسور خلال السبعين عاماً التي تفصلنا وتفصل العرب عن النكبة. فطوال العقود السابقة على اتفاقية أوسلو اعتاشت الدعاية الإسرائيلية والصهيونية على صورة إسرائيل كواحة أو قطعة مكثفة للخبرة الحضارية الغربية لكنها محاصرة ومهددة من جموع عربية متوحشة وعنيفة. الفلسطينيون في هذه اللوحة يمثلون الترجمة المحلية للتهديد المحيط. فلنتذكر أن إحدى أساطير السردية الصهيونية العنيدة عن النكبة كانت تتحدث عن رحيل الفلسطينيين كاستجابة للدعوات الموجهة اليهم من المسؤولين العرب كي يغادروا تمهيداً لتدخل الجيوش العربية. عاشت طويلاً هذه الخرافة الدعائية التي ألقت على العرب مسؤولية النزوح الفلسطيني مما افترض ولا يزال أنه ينبغي على العرب أن يبادروا إلى تصحيح الخطأ والتعويض عنه عبر التوطين وترشيد الفلسطينيين عن طريق قطع الصلة السياسية مع قضيتهم.
الأمور تغيرت على ما يبدو. لم يعد العرب كتلة عداء افتراضي مع الكيان الصهيوني. ولم تعد القضية الفلسطينية قضيتهم المركزية في معنى التعامل معها بمقتضى المسؤولية التاريخية والسياسية. لقد خرج العرب من واجهة الصراع وانتقلوا إلى مواقع وأدوار أخرى. وانسحابهم من هذا الموضوع هو انسحاب من عملية البناء السياسي المستقل. اجتماع وزراء خارجية الدول العربية قبل ثلاثة أيام لا يشذ عن هذه الوجهة. فمطالبتهم بتشكيل لجنة دولية ذات صدقية للتحقيق في جرائم إسرائيل والمجزرة التي ارتكبتها على حدود غزة تبدو أكثر ارتباطاً بلعبة الحفاظ على ماء الوجه بالمقارنة مع المواقف والتصريحات والإجراءات التركية مثلاً. ونرجح أن هذه المطالبة ستبقى حبراً على ورق مثلها مثل المبادرة العربية ولن يكون لها أي تأثير على مسار النزاع بالأحرى على عملية وأد المسألة الفلسطينية جهاراً وبلغة ترامبية لا ينقصها السفه ولا العتو. التباس الموقف العربي ليس جديداً. فبالعودة إلى النكبة كحدث نعلم أنه ليس دخول الجيوش العربية الحرب عام 1948 هو ما سبّب نزوح الفلسطينيين عن أرضهم وبيوتهم، بل العكس هو الصحيح، أي أن النزوح الذي بدأ قبيل الإعلان عن نشأة دولة إسرائيل هو الذي استدعى دخول العرب الحرب وخسارتهم لها. هذا ما لم يتوقف عن التشديد عليه المؤرخ الفلسطيني الرصين وليد الخالدي.
من الضروري مراجعة العلاقة بين العرب والنكبة مراجعة نقدية. ذلك أن تطور الوضع الفلسطيني على إيقاع المواجهة مع المشروع الصهيوني وقوة الانتداب البريطاني منذ نهاية الحرب الأولى لا ينفصل عن المسار المضطرب والملتبس الذي سلكته الفكرة العربية بالنظر إلى شروط نشأتها وملابسات تحولها إلى إيديولوجيا سياسية. هذه الفكرة والمشروع المرتبط بها قبيل الحرب الأولى أفصح عن مقدار كبير من الارتجال والتسرع في تأسيس الإطار القومي الجامع لوطنيات ما دون الدولة موروثة عن منطق الجماعات المحلية المتجاورة والمتنافسة في العهد العثماني ومنظومته السلطانية الشاسعة والمتنوعة الأطياف والعناصر. ولا حاجة إلى التذكير بالدور البريطاني في تسويق الفكرة العربية والحض على إعطائها صفة قومية بالتقابل مع الصفة العثمانية وصعود النزعة القومية الحديثة في أوساط العسكر والنخبة الإدارية والاقتصادية في تركيا. وقد تكفلت العلاقة الزبائنية التي ربطت بين بريطانيا والنخب العربية المستندة إلى شرعيات تقليدية محلية برسم حدود الفكرة العربية وخطوطها الحمر.
خلال الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين وعلى إيقاع تنامي الصراع من أجل الاستقلال الوطني ونشوء حركات وقوى وطنية متفاوتة التشكل شهدت العروبة تحولات كبيرة كسرت مع صورة العروبة السلبية. تاريخ النكبة لا ينفصل عن التباسات العروبة ونكبتها اللاحقة.