معن البياري
مفزعٌ جدا لإسرائيل، وهي التي تُصدّر أسلحةً ونظما عسكريةً إلى الهند والصين، أن يفكّر اللاجئون الفلسطينون بالعودة إلى وطنهم المحتل في العام 1948. لا مشكلة في أن يفكّروا بدولةٍ لهم على بعض الضفة الغربية. صحيحٌ أن التفاوض في هذه المسألة وحواشيها لم يصل إلى شيء، منذ مؤتمر مدريد في العام 1991، غير أن شياطين التفاصيل هي التي أعاقت حسم هذا الملف. ونتذكّر أن إيهود باراك عرض على ياسر عرفات، في ضيافة بيل كلينتون في كامب ديفيد، عشيّة الانتفاضة الثانية، عودة نحو مائة ألفٍ من الفلسطينيين اللاجئين، وآخرين تاليا، فقبل عرفات ذلك، على أن تكون الأولوية من اللاجئين في لبنان، لكن رئيس الحكومة الإسرائيلية اشترط، في مقابل عرضه ذاك (السخيّ بحسب مفرداتٍ إسرائيليةٍ)، توقيع الزعيم الفلسطيني على اتفاقٍ يقرّ فيه بأن تعني عودة هؤلاء نهايةَ قضية اللاجئين كلها، وهو ما رفضه عرفات. .. وأن يتوزّع عشرات الجنود الإسرائيليين مسلحين برصاص وقنابل وفيرة على تلالٍ ترابيةٍ تشرف على قطاع غزة، في مواجهة مدنيين عزّل، أمرٌ يكشف أن تسلح هؤلاء المدنيين، وهم لاجئون، بفكرة العودة، ترتجّ منه إسرائيل التي صار رئيس حكومتها ومسؤولوها وسفراؤها في العالم، ومنهم مندوبها الصفيق في الأمم المتحدة، يشيعون في العالم أن فائض الإنسانية لدى أولئك الجنود هو ما جعل عدد الفلسطينيين القتلى، يوم الاثنين الماضي، يزيد قليلا عن الستين، والمصابين أكثر من ألف، فقد كان في وسع منتسبي جيش الدفاع الإسرائيلي أولئك أن يقتلوا ويجرحوا أعدادا أكثر، فقد كانوا على مسافة قصيرة من "أهدافهم"، لكنهم لم يفعلوا (!).
كان إرييل شارون يردّ على من يطالبونه بوقف بناء المستوطنات وتوسيع القائم منها بأنه ليس في وسعه أن يطلب من الأمهات الإسرائيليات أن يتوقّفن عن الحمل والإنجاب. بمثل ذلك السّخف المعلن، يتبارى المتحدثون الإسرائيليون، ورفيقتهم، بل في طليعتهم ربما، مندوبة دونالد ترامب في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، في إشهار عنصريتهم، عندما يسترخصون حياة الفلسطيني، ويتحدّثون عن دفاع إسرائيل عن نفسها. وهذا فصيحٌ في "يديعوت أحرونوت" يبلغ منزلةً من الشطارة مبتكرةً ربما، عندما كتب أن من أسباب فقدان الفلسطينيين القتلى، نهار يوم الاثنين الماضي، حياتَهم تنمية وكالة الغوث وهم العودة لديهم.
وأمام تأصّل التوحش في بنية العقل الإسرائيلي، وأمام عدم قدرة هذا العقل الحاكم في بنية الدولة التي أقامها بطرد أهل الأرض من وطنهم، وبالفتك والتهجير، على استساغة فكرة عودة فلسطيني من مطرح لجوئه إلى بلده، يصبح صراع الفلسطينيين مع إسرائيل عويصا وشديد الصعوبة، وبالغ الكلفة. وتصبح هذه الرتابة الفلكلورية التي يزاولها النظام العربي، عندما يتداعى وزراء ومندوبون منه إلى اجتماعاتٍ (طارئة!) بائسةٍ، تصنّعا لا يكترثُ به أحد. وتصير كذلك المؤتمرات الكبرى والصغرى، في اسطنبول وغيرها، فضاءً للكلام الذي لا يصل شيءٌ منه إلى أسماع أي جنديٍّ إسرائيليٍّ من المستنفرين على تلال الرمل قبالة الغزّيين المنكشفين. ولا تزيّد في القول هنا إن العصابة الحاكمة في دولة الاحتلال ترى في اكتفاء الأنظمة العربية والإسلامية بمهرجانات الكلام المعلومة المفردات ترخيصا لها باستئناف القتل أنّى شاءت، وكما شاءت. يدلّ على صحة قولٍ كهذا أن جيش الحرب الإسرائيلي لم يكن، في وجبة القتل التي زاولها الأسبوع الجاري، يجري تمرينا أول من نوعه، وإنما كان يرتكب ما اعتاد أن يرتكبه، فثمّة مذابحُ واعتداءاتٌ بلا عدد سقط في غضونها فلسطينيون بلا عدد، في قطاع غزة وغيره، وتنوعت في كل مرة ذرائعها.
يجوز أن يجهر واحدنا بالسؤال العسير: ما العمل، إن كان مجلس الأمن مخطوفا، وإن كانت إسرائيل لم تحترم يوما أي قرار للأمم المتحدة؟ وكل المشروعية والوجاهة لأسئلةٍ أخرى تخصّ المقاومة الفلسطينية وحركاتها وتشكيلاتها، في قطاع غزة خصوصا: أما من صيغٍ أخرى للفعل المدني الفلسطيني الاحتجاجي، وللكفاح الأهلي، غير الذي لا تعبأ في غضونه إسرائيل بأرواح فلسطينيين عديدين، لكلّ واحدٍ منهم أهلٌ وناسٌ وأصدقاء؟ أليس في الوسع أن يحمي الفلسطينيون أرواحهم وأبدانهم من الوحش الإسرائيلي، ما أمكن لهم ذلك، وهم يؤكّدون على حقهم في العودة، وكسر الحصار عنهم في قطاع غزة؟ أسئلةٌ مكشوفةٌ تؤشّر على عجزٍ مهول، وحيرةٍ عظيمة، ومتاهةٍ مريعة، وحالةٍ وطنيةٍ فلسطينيةٍ راهنةٍ بلا أفق، ولا مسار... .