Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

وسيبقى الأقصى في قلوبنا.. نبيل حمودة

وسيبقى الأقصى في قلوبنا.. نبيل حمودة

  إن الكتابة عن المسجد الأقصى المبارك والأماكن المقدسة في القدس ليست بالشيء الجديد، لكن الجديد هو اشتداد وتيرة المسيرات وتصاعد خطورة الاقتحامات والمداهمات الاستفزازية، وتسارع الإجراءات الإسرائيلية غير المسبوقة التي تجري بالمسجد الأقصى وما حوله،

الهادفة إلى محاولة طمس الهوية الإسلامية للمسجد الأقصى، وشطبه وما حوله من الذاكرة الفلسطينية والعربية والإسلامية، وفرض حقائق ووقائع تفرض على الجميع سواء بالقوة والبلطجة أو الرضا والخنوع لقبول تسوية الأمر الواقع، والقبول بالمخططات الصهيونية بالاستيلاء والسيطرة على القدس وتهجير أبنائها العرب وإحلال اليهود محلهم، وجعلها العاصمة الموحدة لدولتهم، وبناء هيكلهم الثالث المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى بعد هدمه، أو تحته أو على أرض ساحاته.

وأما لماذا واجب الكتابة عن المسجد الاقصى والتركيز عليه اكثر من غيره، فلأن المسلمين مرتبطون فيه أكثر من غيرهم من الشعوب والأمم عقيدياً وتاريخياً وإسلاميا وعمرانياً وثقافياً منذ القدم وحتى الآن ومستقبلاً، فقلوب المسلمون تهفوا لزيارته ورؤيته ويتوجهون إليه ويشدون الرحال للصلاة فيه من كل حدب وصوب طلباً للأجر والثواب.

كما وأن ما يجري من أحداث في باقي مدينة القدس وحولها إنما يدور في فلك الصراع على المسجد الاقصى فهو البؤرة الرئيسة والمركز والمحور الرئيسي وجوهر الصراع العربي/ الاسرائيلي، فإن تهاوى المسجد وأمكن لليهود السيطرة والاستيلاء عليه "لا سمح الله" فإن المدينة وفلسطين بأكملها ستتهاوى ويسيطرون عليها.

فاليهود يدَعون بأن المسجد الاقصى المبارك، وفقاً لنبوءاتهم التوراتية وشعائرهم التعبدية "هو ملك للشعب اليهودي بل هو المكان الاكثر قدسية لهم" ويرددون بأن القدس ستبقى عاصمة "اسرائيل" الابدية، ألم يقل بن غوريون: "أن لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل"، وألم يقل موشيه ديان بعد حرب 1967: "لقد عدنا اليك يا اورشليم فإننا لن نفارقك أبد الدهر".

بينما يهتم المسلمون بالمسجد الاقصى اهتماماً خاصاً، ليس لارتباطهم به إسلامياً وعقدياً، ولقدسيته فقط، بل لمكانته الخاصة والمتميزة في نفوسهم، وجذور عروبة مدينتهم المقدسة، مما يجعلها قلب فلسطين يهفوا اليها الجميع فعي ومهبط الأديان من أهم بقاع العالم.

ومع أنه لم يبق قول أو تنبيه أو تحذير أو استنكار أو شجب وإدانة عن المسجد الاقصى المبارك منذ احتلاله ووقوعه تحت الاحتلال الاسرائيلي عام 1967 إلا وتحدثنا عنه، فقلنا أن بقاء الاحتلال للمسجد الاقصى وصمة عار على جبين الأمتين العربية والإسلامية، وأن الأخطار محدقة به فهو مهدد بالتقسيم ومعرّض للحريق والقصف والنسف والاعتداء أكثر من اي وقت مضى، وأن الحفريات والأنفاق من تحته بدأت تصدع جدرانه وتهدد أساساته، فالاحتلال تجاوز كل الخطوط الحمر بمحاولة انتهاك قدسيته وتحويله لمكان سياحي تنتهك حرمته ويدنسه الغرباء، وأن تبقى ساحاته مراقبة من الشرطة والكاميرات التي تحولت الى ساحات حرب يطلق فيها الرصاص وقنابل الغاز ويسقط فيها مئات  الشهداء والجرحى.

إلا أن الاحتلال البغيض مستمر في إطار خططه الاستراتيجية بالقيام على تحويل المسجد الأقصى ومحيطه بالمدينة العتيقة وخارجها الى ثكنة عسكرية فينشر قواته المكثفة حول الاماكن المقدسة، وفي مختلف الشوارع وخارج سور المدينة، ويكثف من تواجد دوريات الشرطة، وحرس الحدود المدججين بالسلاح والعتاد، والمستعربين وأجهزة المخابرات والمتطرفين، ويقيم الحواجز والمتاريس الحديدية ونقاط التفتيش، ويراقب بالكاميرات كل حركة، هذا عدا عن قيامه بإغلاق معظم أبواب المسجد الاقصى، ويضغط على سدنته وحراسه، ويمنع إدخال أية مواد حتى مواد الصيانة والترميم، وبالتدقيق في هويات الداخلين اليه والخارجين منه، ويضع العراقيل ويفرض القيود والتعقيدات والصعوبات للحيلولة دون وصول الزائرين والمصلين وتأخير القادمين عن موعد صلاتهم في المسجد الاقصى المبارك، ولمنع عشرات الآلاف منهم من الدخول الى المسجد، "ناهيك عن الإجراءات المشددة التي اتخذها الاحتلال في الآونة الاخيرة لمنع آلاف المسيحيين من الوصول الى كنيسة القيامة، التي تعد أحد أهم الأماكن المقدسة عند المسيحيين في القدس"، واتخاذه الاجراءات التعسفية والقمعية، وإيقافهم بطوابير طويلة مزعجة، بغرض إزعاجهم وتصعيب وصولهم للصلاة، ومضايقتهم لتطفيشهم وعدم تشجيعهم على الحضور والعودة للصلاة، خاصة العجزة منهم وكبار السن، في الوقت الذي يسمح فيه لليهود بالتمتع والتحرك في كل شبر بالمدينة بكل حرية وسهولة ويسر.

في الوقت الذي تتصاعد فيه الاقتحامات والانتهاكات والهجمات المكثفة والتصريحات الهجومية المؤذية، والمسمومة على المسجد الأقصى والمصلين فيه، والأماكن المقدسة من المسؤولين الإسرائيليين والمتطرفين بشكل غير مسبوق ولا مثيل له، وذلك لقمع وإزعاج وإقلاق من يفدون للصلاة بالمسجد الاقصى وإرعابهم بإطلاق قنابل الغاز والرصاص المطاطي وخلافه، واتخاذ اجراءات مشددة بحق الشباب وطلاب العلم والنساء والمعتكفين في المسجد وفي باحاته، واعتقال الشباب والأطفال من ساحات المسجد وبيوتهم، بل حتى تطبيق شريعتهم على المسلمين بعدم السماح للعرب ببيع بعض الأصناف الغذائية التي لا يتم تداولها في أعيادهم اليهودية.

إن هذه الخطوات التصعيديه الهدف منها تعطيل حرية الوصول للصلاة بالمسجد الاقصى، وإعاقة الحرية الدينية وحق التنقل وحرية العبادة بالأماكن المقدسة وعدم احترام مشاعر المسيحيين والمسلمين، إنما تكشف زيف ادعاءات اليهود، ومخالفاتهم جميع القوانين والمواثيق الدولية وقيم ومبادئ الديمقراطية الاساسية وحقوق الانسان خصوصاً مع تصاعد الاقتحامات والاعتداءات تحت ستار وحجج سياسية، ومبررات سياحية، وادعاءات أمنية، وغطاء لإقامة طقوس دينية يهودية، تتم بحماية الشرطة ورجال العسكر، مما يزيد من تأجج الوضع في المدينة ويزيده اشتعالاً، ويثير خوف وفزع وتوتر المقدسيين، ويؤدي الى دفع الأمور نحو العنف والانفجار.

إن هذا الوضع من الحصار والتضييق والإغلاق وإزعاج المصلين يهدف أيضاً الى محاولة التقسيم الزماني والمكاني تدريجياً، تمهيداً لهدم المسجد الاقصى والاستيلاء عليه لإقامة الهيكل المزعوم تحت ستار ديني متعصب يدعمه تيار مدني سياسي وغطاء قانوني توفره الحكومات الاسرائيلية. فما نشهده هذه الايام من خطوات وإجراءات، انما هو ترويض نفسي للمسلمين للتسليم بهذا التقسيم بإتاحة سلطة الاحتلال للمتطرفين اليهود الدخول الى باحاته في اوقات معينة (ما بين الساعة 07:00 – 11:00)، وبات هذا التقسيم الزماني أمراً مفروضاً على دائرة الاوقاف الاسلامية التي لا حق لها "حسب وجهة سلطة الاحتلال" بالاعتراض على ما تقوم به من اجراءات غير قانونية وغير شرعية، حتى وان كانت تمسّ مشاعر المسلمين الدينية والروحية كتحويل ساحات الاقصى الى ساحات بلدية، فهي مخططات ممنهجة بدأت بطلب دخول أفواج سياحية للزيارة، وأداء صلوات فردية او جماعية، تهدف للسيطرة التدريجية على ساحات المسجد الاقصى تمهيداً لبناء هيكلهم المزعوم، في اطار إجراء تسوية او استعمال القوة لهدم المسجد الاقصى، ونسيانه مع مرور الوقت، فالمسألة لديهم هي مسألة مرحلية وتدريجية.

فلم تعد سيطرة الاحتلال تقتصر على باب المغاربة بل امتد الامر الى السيطرة والتحكم بفتح وإغلاق بوابات المسجد الاقصى الاخرى من قبل الشرطة، والسماح لمن تشاء بالدخول ومنع من تشاء، وأصبح أفراد الشرطة الاسرائيلية هم من يقرر دخول المسجد من عدمه، بل إغلاق أبواب المسجد في وجه المصلين متى يشاؤون، وقد شهدنا كيف امتدت اجراءاتهم بمنع من هم دون الخمسين من دخول المسجد أحياناً ومنع النساء من كل الاعمار من الدخول أحياناً أخرى.

هذا كله يدعو للاستهجان والاستفسار عن سبب تصعيد هذه الهجمات الشرسة على المسجد الاقصى وتزايدها في هذا الوقت بالذات. فهل ذلك استغلال اسرائيلي بسبب اليأس والإحباط الذي بدأ يتسلل الى نفوس المقدسيين بسبب تأجيل قضية القدس وبالتالي عزلها وفصلها عن محيطها؟ أو هل ذلك استفادة من الانقسام الفلسطيني وعدم المصارحة والمصالحة، أم هو لضعف وهوان الوضع العربي خشية القوة العسكرية الاسرائيلية، وحالة التخاذل والتشرذم العربي والإسلامي خاصة بعد الخريف العربي، أم التجاهل والتغاضي العالمي، وغياب تنفيذ الشرعية الدولية وسكوت المتشدقين حقوق الانسان.

هل هو تصعيد لليهود المتدينين على حساب تراجع رجال السياسة؟ أم هل هو إلهاء الاحتلال للفلسطينيين لعدم المطالبة بالدولة المستقلة والذهاب الى الامم المتحدة؟ حتى تضيع بوصلة برامجهم في تحديد المشروع والأهداف الوطنية.

أم هل هي لعبة حرب استنزاف؟ المقصود منها استمرار مفاوضات السلام دون أي معاهدة سلام "فلا سلم ولا حرب"؟ هل هي لدفع العرب للتخلي عن فلسطين كقضية مركزية؟ وإشغالهم بالقضايا والمشاكل الداخلية؟

أم أنه هدف استراتيجي للصهيونية بالسيطرة التدريجية على المسجد الاقصى لبناء هيكلهم المزعوم، وهو الهدف الرئيسي الذي يسعى الإحتلال لتحقيقه "بالرغم من أن تعاليم الشريعة اليهودية تمنع اليهود من دخول الحرم"، وإلا كيف نفسّر تخفي الإحتلال وتستره وراء الديانة اليهودية والتعصب والتطرف الديني عند بعض الجماعات الدينية، والمنظمات اليهودية المتطرفة، فيدعمهم ويسمح لهم ويغض النظر ويتجاوز على اعتداءاتهم وانتهاكهم للمسجد الأقصى والمصلين فيه ليتسلل تحت عباءة السياسة واستخدام القوة لتقديم ما يسميه حلولاً استرضائية هدفها النيل من الحقوق الفلسطينية الشرعية تدريجياً بدعوى تهدئة المتطرفين، وإسكات المتدينين تارة، وإرضاء الشارع اليهودي تارة أخرى، وهي التي توفر الحماية القانونية لانتهاكاتهم بإدعاء الجنون أحياناً او الدفاع عن النفس أحياناً أخرى.

وهي نفس التكتيكات التي يتبعها للسيطرة والاستيلاء على الضفة الغربية والهيمنة عليها بزرع عشرات المستوطنات وإسكان مئات الالوف من المستوطنين أمام سمعه وبصره وبتمويله، لفرضه أمراً واقعاً مع مرور الوقت، وادعاءاته باعتراضه على  المستوطنين واعتداءاتهم على الفلسطينيين، والتظاهر أمام الرأي العام الحر بمعارضته لهم ولتصرفاتهم، وكذلك التظاهر بإزالة بعض المستوطنات العشوائية الخالية من السكان.

إن هذه السياسات الاحتلالية المغلفة بالتطرف الاستيطاني والتعصب الديني واستخدام العنف والقوة ما هي إلا وسائل لتمكينهم من التهويد والأسرلة بهدف تطفيش وتضييق عامة المقدسيين، ودفعهم للرحيل والنزوح والهجرة من مدينتهم فتتحقق لهم استراتيجيتهم بالاستيلاء والسيطرة عليها وعلى الارض الفلسطينية العربية.

وما يزيد الأمر غموضاً واستهجاناً هو الصمت العربي الرهيب، ومواقف الدول والحكومات بل والشعوب العربية والإسلامية إزاء ما يجري من أحداث في المسجد الاقصى وحوله، الذي يئن حزناً ويستنجد بالعرب والمسلمين من الاحتلال وإجراءاته، فهل نسي الجميع بأن المسجد الأقصى هو مسرى نبيهم، وأنه أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، أرض المحشر والمنشر، وتركوا أهل القدس وحدهم صامدين يواجهون بصدورهم العارية أعتى صور الظلم والعدوان، فأين ذهبت غيرة العرب والمسلمين وحميتهم على مسجدهم؟ وهل ضعف ايمانهم ومحبتهم لمقدساتهم؟ فلا يحركون ساكناً صامتون لا يتكلمون عن احتلالها، والاعتداء عليها.

ولكن مهما يحاصرون المسجد ومحيطه، ومهما يعزلونه ويفصلونه سيبقى المسجد للمسلمين عصياً على النسيان، وعصياً على الهدم والتدمير، ولن ينتهي الوجود العربي بالقدس ولن يندثر أهلها العرب، وستبقى القدس عربية اسلامية بتاريخها وبحضارتها وبتراثها وأصالتها، بطابعها ومعالمها وملامحها، وستبقى حية تعيش في وجدان وذاكرة كل عربي ومسلم، وسيظل الشرفاء من أبنائها ومن العرب والمسلمين يدافعون عنها بالغالي والرخيص والمهج والأرواح حتى النصر والتحرير، فهم لم يفقدوا ثقتهم بأمتهم بالأمس واليوم وغداً.