بقلم : أحمد المدلل
منذ أن طُلب منى الكتابة عن الأخ المرحوم المفكر والاكاديمى د. سميح حمودة عصرت ذاكرتي للعودة إلى ما يقارب الأربعين عامًا منذ أن رأيته لأول مرة مصاحبًا للشهيد الدكتور فتحي الشقاقي في إحدى الندوات التي كان يعقدها الشهيد الدكتور فتحي في بيته في مخيم الشابورة برفح يوم الجمعة عصرًا يوم عطلته، حيث كان يعمل في مستشفى المطلع بالقدس وقد حضر معه حينها الأخ سميح حمودة من الضفة الغربية، هذه الندوة الأسبوعية كان يحضرها عدد كبير من الإخوة حينها الدكتور رمضان شلَّح والشيخ عبدالله الشامي والدكتور محمد جودة، الشيخ نافذ عزام، المرحوم إبراهيم معمر، الأخ تيسير الغوطي، والدكتور علي شكشك، والدكتور محمود شاكر، والمهندس أحمد شاكر، والدكتور نظمي الأعرج. وقد كنت أنا واثنان آخران أصغرهم سنًا، وكان يحضر معنا إخوة آخرون ٢٠ إلى ٢٥ أخ من مناطق أخرى في قطاع غزة، نستمع للدكتور فتحي الشقاقي وإخوة آخرين مثل الدكتور رمضان شلَّح وغيره، وقد كنت أعرف الأخ سميح شكلًا ولم أتعرف عليه بعد.
حين ذهبنا للدراسة في جامعة بيرزيت أواخر عام ١٩٨١م وكنا قد التحقنا في صفوف حركة الجهاد الإسلامي، وعقد الندوات واللقاءات، وتوزيع الإصدارات ومجلة المختار الإسلامي التي تصدر في مصر، ومجلة النور التي تصدرها جمعية الشبان المسلمين في القدس، وكما علمت لاحقًا أن الأخ سميح كان أحد أعضاء الجمعية النشيطين، وهو الذى كان يوعز بإضافة مقالات للدكتور فتحي ضمن مواضيعها، لما دخلت الجامعة وفى الحرم القديم إذا بالأخ نائل الخطيب يوزع إحدى المجلات إما المختار الإسلامي أو النور الإلهي، فاقتربت منه وبدأت أطراف الحديث حتى علمت أنه من نشطاء الحركة في الجامعة، وفوجئت أنه يسكن مع الأخ المرحوم يوسف قوش من رفح الذى أعرفه من قبل حتى توطدت العلاقة، وأخبروني عن ندوة يعقدوها في منزلهم، ويتحدث فيها الأخ سميح حمودة الذى تعرفت عليه جيدًا حينها، وبدأت بيننا علاقة قوية، وقد كان يمتلك صفات جاذبة، محب لإخوانه ورقيق في تعامله، يتحدث بانطلاقة وعمق وباتزان وغزير الفكر، بسيط الأداء، يصاحب كلماته ابتسامة تجذبك لحديثه.
عددنا كان قليلًا لا نتجاوز العشرة أو خمسة عشر مع إخوة لنا من الضفة، ثم جاءنا إخوة من غزة وانضم إلينا الإخوة الذين اعتقلوا في مصر وواصلوا دراستهم في جامعة بيرزيت، والذين كانوا شعلة نشاط في العمل الحركي، في أوقات الفراغ، بين المحاضرات كنت أجد ضالتي مع الأخ سميح إما في الكافتيريا وقد التفَّ حوله كثير من طلاب وطالبات الجامعة يستمعون إلى حديثه عن الإسلام والفكر الجهادي، وكان منظرًا قويًا ورائعًا وصاحب فكر، أو كنت أجده في ساحة الجامعة وحوله طلاب وطالبات من كتل طلابية مختلفة الاتجاهات وهو يتحدث إليهم ويجيب على أسئلتهم، ولا تستغرب حين تراه وقد أوقفته إحدى الطالبات المتبرجات لتناقشه في موضوع فكرى، يعطي كل وقته للقراءة، ولم يكن الكتاب يفارق إبطه أبدًا في شتى المواضيع والأفكار، سمعته وهو يناظر الماركسي والوطني والقومي والمسيحي وحتى الإسلامي من الإخوان أو حزب التحرير، وفى كثير من الأحيان تحذر الكتل الطلابية أتباعها من الدخول معه في نقاشات خصوصًا الكتلة الإسلامية، وقد تعرض لمضايقات كثيرة في مرحلة المنافسة الفكرية ما بين الفكر الإسلامي التقليدي والفكر الثوري التغييري الذى كان من أصحابه وينظر من أجله. كان اهتمامه بالفكر والعمل الحركي ونشاطه وعلاقاته مع كل الرموز الوطنية والاسلامية حتى المسيحيين كانوا يحبونه، وبلدة بيرزيت الكثير من سكانها مسيحيون.
انشغاله بالفكر والعمل الإسلامي الحركي أثر كثيرًا على دراسته الأكاديمية حيث أنه دخل الجامعة قبلنا بثلاث سنوات تقريبًا، وعلمت أنه أول دراسته تخصص في الفيزياء ولا يدخل هذا القسم إلا عباقرة العلم؛ لصعوبته حينها، ولعدم تفرغه ترك الفيزياء وذهب إلى الرياضيات، وأيضًا يحتاج إلى دراسة كثيرة، ومن ثم ترك الرياضيات وذهب إلى التجارة ولم يستمر فيها فصل أو لم يكمل، ثم وجد ضالته في العلوم السياسية التي لم تستغرق معه أكثر من ثلاث سنوات، وما كنت أسمعه من زملائه في القسم أن المحاضر كان يطلب منه في كثير من الأحيان ليقدم المحاضرة عنه لعلمه بإمكانيات سميح الفكرية وقدرته على الإلقاء أكثر من المحاضرين أنفسهم بسبب سعة اطلاعه وملازمته للدكتور فتحي الشقاقي حينها، وأذكر أنه بدأ يكتب كتابه (الوعى والثورة، دراسة في حياة وجهاد الشيخ عز الدين القسام) وهو لا يزال طالبًا لم ينه دراسته الجامعية بعد.
وما زاد من علاقته بالدكتور فتحى واستمرار ملازمته له أولًا حبه للدكتور ونهمه اللامتناهي في تشرب فكر الدكتور فتحي الشقاقي، وكان حينها يسكن مخيم الأمعري بين رام الله والقدس، ومن السهولة أن يرى الدكتور فتحي يوميًا بعد أن ينهى عمله في مستشفى المطلع في القدس، وأيضًا من خلال علاقاته المتشعبة والقوية مع رموز الحركة الوطنية والحركة الاسلامية في الضفة مثل الشيخ عكرمة صبري والمرحوم فيصل الحسيني، وقيادات وطنية أخرى ومؤسسات وطنية، وعلاقاته بالشيخ بسام جرار وفضل حمدان وحسن يوسف وإبراهيم أبو سالم. وكان بيته محط لقاءات بين هذه القيادات والدكتور فتحي الشقاقي رحمه الله، وأحيانًا يصطحب هذه القيادات للقاء الدكتور فتحي أو أنه يصاحبه للقاء هذه القيادات في أماكن تواجدهم.
كان المرحوم الدكتور سميح دائم التردد على جمعية الدراسات العربية في القدس (بيت الشرق لاحًقا)، ويديرها المرحوم فيصل الحسيني، وقد كانت ملتقى الرموز الوطنية من كافة الاتجاهات وتحوي مكتبة عريقة وكبيرة جدًا بمبناها التاريخي، كنت أشعر أن أخي الدكتور سميح يعشق مكتبتها عشقًا حتى عين فيها موظفًا.
رحم الله الأخ الدكتور سميح، وأسكنه فسيح جناته، وجمعنا به مع الأنبياء والصديقين وحسن أولئك رفيقا، ونسأله تعالى أن يلهم ذويه الصبر والسلوان.