عوني صادق
جمعتان تحركت فيهما جموع الغزيين إلى السياج الحدودي، ارتقى فيهما أكثر من خمسة وعشرين شهيداً وتجاوز عدد الجرحى والمصابين الألف، جمعتان أعادتا الاعتبار لجملة من الحقائق الثابتة ولكن التي شوهتها المواقف والسياسات الفلسطينية المستسلمة لقوة المحتل الغاشمة من جهة، وطمستها الأكاذيب والسياسات «الإسرائيلية» المتجاهلة لها كما للشرائع والقوانين، من جهة أخرى.
فلسطينياً، أسقطت المسيرة «الانقسام» المزعوم في الموقف الشعبي الفلسطيني، هذا الانقسام الذي فشلت سنوات من الاجتماعات والاتفاقات بإنهائه، فجاءت المسيرة لتؤكد ما كان معروفاً من أن الانقسام هو «انقسام قيادات» و«صراع فصائل» ليس فيه للشعب مصلحة أو نصيب! وفي الوقت الذي تحركت فيه الجماهير متجاوزة الانقسام والقيادات والفصائل، ما زالت «سلطة رام الله» تطالب ب «تسليم» غزة لها وتهدد بمزيد من العقوبات، وتتهيأ لعقد «مجلس وطني» انتهت شرعيته حيث يعلو التساؤل عن الهدف من عقده! لقد أظهرت «مسيرة العودة» أن الجماهير الشعبية على أهبة الاستعداد لتقديم كل تضحية ممكنة عندما يكون الهدف خدمة «القضية الوطنية»، وهي تتجاوز الفصائل والقيادات عندما يتحدد الهدف الوطني الجامع، غير آبهة بالتهديدات وغير خائفة من أن تلقى الموت في سبيله.
«إسرائيلياً»، حاولت القيادات «الإسرائيلية» من خلال رموزها في الحكومة وأبواقها في الصحافة والإعلام، وهي تكشف عن خوفها وارتباكها، أن تزعم أن تحرك الجماهير كان بسبب «الضائقة الاقتصادية» طامسة الدافع والهدف الحقيقي الذي حمله عنوان المسيرة وهو «العودة وحق العودة» إلى أرضهم المسلوبة. واضطر «اليسراويون» من الكتاب والصحفيين «الإسرائيليين» أن يتساوقوا بطريقة ملتوية معها فبدت القضية في نظرهم «قضية إنسانية» ملتقين مع قياداتهم في نظرية «الضائقة الاقتصادية»، وإن كالوا لهذه القيادات «تهمة الاستعمال المفرط للقوة» على نحو يمكن أن تفيد كتاباتهم لتوثيق جرائم قياداتهم وتجمعهم كله محذرين من نتائج ذلك على «الديمقراطية «الإسرائيلية» وصورتها في العالم!
هكذا أعادت «مسيرة العودة الكبرى» إلى الضوء ليس فقط القضية الفلسطينية، كما يقال عادة، بل أعادت أيضاً التأكيد على تمسك الفلسطينيين بأرضهم وبحقهم في العودة إليها، في وقت يستعد فيه «الإسرائيليون» وحليفهم الأساسي، الولايات المتحدة الأمريكية، لنقل «السفارة» إلى القدس تزامناً مع يوم سبعينية «النكبة»، ولتأتي المسيرة حاملة الرد على «صفقة القرن» التي يأمل الأعداء على اختلاف مواقعهم ومشاربهم أن تكون «كلمة النهاية» في تصفية القضية التي أزعجتهم سبعة عقود دون أن يمل أصحابها التذكير بها والقتال من أجل انتصارها. ولعل المفارقة تبدو في هذا «اللقاء» بين ما يريده الأعداء «نهاية» وبين ما تجعله الجماهير الغزية «بداية»! وفي الوقت الذي يظهر الفلسطينيون في غزة عبر «مسيرة العودة» تمسكهم بالثوابت الوطنية وأولها العودة إلى أرضهم ومدنهم وقراهم التي أخرجوا منها بالقوة، يندفع «الإسرائيليون» في مسار نهايته سقوط كيانهم المصطنع، وتبدو فاشيتهم المتعاظمة طريق السقوط، لأنها تمثل سلوك «التجمع «الإسرائيلي»» كله أو غالبيته فلا يقتصر على القيادات المتطرفة والأكثر تطرفاً. وفي مقال للكاتب «الإسرائيلي» اليسراوي جدعون ليفي في (هآرتس- 5/4/2018)، قال محذراً: «يمكن أن نهاجم رئيس الحكومة بقدر ما نريد، فهو يستحق ذلك. ولكن في نهاية المطاف علينا أن نقول: هذا ليس بنيامين نتنياهو، هذا هو الشعب، أو على الأقل غالبيتنا»! ويضيف: «نتنياهو ليس الكارثة الحقيقية، بل الكارثة هي حقيقة أن في «إسرائيل» كل إظهار للإنسانية هو بمثابة انتحار سياسي»! لكن ليفي ما زال يرى القضية «إنسانية» وهو ما يجعله لا يختلف عن نتنياهو إلا في الدرجة!
الشعب الفلسطيني يريد كل أرضه، يريد تحرير وطنه، وهو متمسك بهذا الهدف ولن يحيد عنه. وكل المطلوب أن تظهر عزيمته، التي تظهر قوية ضد المحتل «الإسرائيلي»، قوية في وجه المتعاونين مع هذا المحتل. والمأمول من الآن حتى يوم النكبة، أن تحذو جماهير الضفة الغربية حذو جماهير غزة وعندها سيكون هناك كلام آخر.