عبد اللطيف مهنا
إن الضفة وغزة والمحتل من فلسطين إثر النكبة الأولى، على موعد مع متواتر مناسبات شأنهن في هذه المرحلة إشعال فتائل المواجهة. الأولى ذكرى معركة الكرامة المجيدة، أول انتصار عربي يتحقق في مواجهة مع العدو بعد النكبة الثانية، أو هزيمة 1967، حيث تمكن فدائيو البدايات الأولى، بمساندة من مدفعية الجيش الأردني، من تلقين العدو هزيمة لم يتوقَّعها، وكان لرمزيتها ما له من أثر في تنامي العمل الفدائي واتساعه.
تتراكم المؤشرات الموضوعية في فلسطين المحتلة لتشي باقتراب ولوج الصراع بين الشعب الفلسطيني والمحتلين منعطفا مصيريا عنوانه نكون أو لا نكون، وبالتالي، دخوله وجوبا مرحلةً نضالية مختلفة. مرحلة من أولى سماتها بالضرورة التعجيل بوضع حد فاصل بين لاحقها النضالي وبين كافة سابق ما كانت قد عهدته الساحة النضالية، وحتى الآن، من أشكال وأدوات، هي في غالبها إما فشلت، أو عجزت، أو هرمت وتكلَّست. ناهيك عن تلك التي انحرفت وتساقطت وتكيفت مع انهزاميتها، فولجت من ثم هاوية المساومات قاطعةً شوطا تنازليا تفريطيا مدمِّرا أوصل القضية إلى شفا حفرة من التصفية عنوانها الراهن ما تدعى “صفقة القرن”. أو هذه المموَّهة، التي لا ينقطع الجدل المتقصِّد حول غموضها المتعمَّد، بيد لا من تمويه يخفي مكيدتها، ولا من غموض يلف جلي استهدافاتها التصفوية، وبتواطؤ أطراف عربية ارتقى تواطؤها المشين مؤخرا من عار السمسرة لها إلى فداحة الضغط المباشر لتمريرها.
المشهد الفلسطيني بعامة الآن هو برسم الانفجار. كافة العوامل الموضوعية لهذا متوافرة. الغضبة في غزة والضفة برسم الاشتعال. وإن حدث، فتأثيره على الجليل وسائر المحتل العام 1948 والشتات الفلسطيني هو في حكم المؤكد.
…في غزة، أوصلت وحشية الحصار المضروب عليها منذ عقد ونيّف المعاناة حدودا لا يحتملها بشر. لقد حشروا الغزيين فيما هو الأشبه بمعتقل يكتظ بمليوني إنسان، وتجمع الهيئات الدولية بأن الواقع الذي هم فيه يفتقر إلى ابسط شروط الحياة. زادته بلةً الإجراءات العقابية التي فرضتها سلطة رام الله، وهذه الأخيرة، إذ هي مشاركة أصلا في الحصار الاحتلالي ـ العربي لها، وتفرض عليها العقوبات، تتوعَّدها الآن بالمزيد منها مستغلة عبوَّة موكب الحمد الله لاتهامها بالجريمة رغم أنها الوحيدة المتضررة منها، وتمكنت، كما هو معروف، من الجناة لاحقا…كان الاتهام دريئةً للتملص من وزر “المصالحة”، ورقصا على دربكة إيهامات تسووية ممهدةً لافتتاح بازار صفقة لن يجرؤ الأوسلويون على قبولها.
…وفي الضفة يبتلع التهويد الزاحف المزيد مما تبقى منها. حوَّل هذا المتبقي إلى مزق وأشلاء متباعدة، إلى نثارات من تجمُّعات سكانيَّة هي مدن وقرى ومخيَّمات باتت في حكم معازل تحاصرها الأسوار والمستعمرات والطرق الالتفافية والحواجز العسكرية…هذا إلى جانب التصعيد القمعي، مداهمات، واعتقالات، وإغلاقات، وعقابات جماعية، ونسف بيوت. أضف إليه، تغيير معالم القدس ومحو هويتها، والاجتياحات المبرمجة للحرم القدسي، والبطش بالمقدسيين وسحب هوياتهم وإبعادهم والتفنن في سبل إفراغ قدسهم منهم.
في الضفة وغزة يتكاتف الآن قهر “التنسيق الأمني”، أو التعاون، مع المحتلين، لقمع الانتفاضة وملاحقة الفدائيين في الأولى، مع أثر بشاعة عقوبات التجويع المفروضة على الثانية، التي بات ثلثا أسرها تكتفي في اليوم بوجبة طعام واحدة، وفي تكاتفهما ما هو أكثر من كافٍ لإشعال فتيل انفجار لا يبقي ولا يذر من كافة الصيغ والأشكال القائمة، سلطةً وفصائل، وهو الأمر المقلق الذي أكثر ما يتحسَّب له هو الاحتلال، وإذ لا يكتم خشيته من انفجار غزة الذي، لا يخفي ذعره من تصاعد العمليات الفدائية في الضفة، حيث واجه فيما لا يزد عن يومين عمليتي جنين والقدس النوعيتين، اللتين أوديتا بضابط وجندي ورجل أمن وجرح ثلاث جنود.
لما تقدم نضيف، إن الضفة وغزة والمحتل من فلسطين إثر النكبة الأولى، على موعد مع متواتر مناسبات شأنهن في هذه المرحلة إشعال فتائل المواجهة. الأولى ذكرى معركة الكرامة المجيدة، أول انتصار عربي يتحقق في مواجهة مع العدو بعد النكبة الثانية، أو هزيمة 1967، حيث تمكن فدائيو البدايات الأولى، بمساندة من مدفعية الجيش الأردني، من تلقين العدو هزيمة لم يتوقَّعها، وكان لرمزيتها ما له من أثر في تنامي العمل الفدائي واتساعه. والثانية يوم الأرض، أو المناسبة التي دشنتها دماء فلسطينيي الجليل دفاعا عن أرضهم وباتت مناسبة وطنية فلسطينية وطنا وشتاتا.
بيد أن الاستعدادات الجارية الآن في غزة لما تم توافق الفصائل على تسميتها “مسيرة العودة الكبرى” في ذكرى النكبة، بمعنى تدفق الجماهير باتجاه حدود الوطن المحتل في العام 1948، وما سيكون له بالضرورة من صدى أو مثيل في الضفة والمحتل عام 1948 والشتات من حول فلسطين، هو ما يقلق العدو ويتحسب له، إذ نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن تقرير نسبته لـ”أمان”، أو الاستخبارات العسكرية، ترجيحه “انفجارا مزدوجا للغضب الفلسطيني ضد السلطة والإحتلال”ً، واستنادا إلى التقرير، تشير الصحيفة إلى أن العمليات الفدائية التي يصفونها بالفردية قد “تخطَّت كونها فردية، وأصبحت حالة مزاج شعبي فلسطيني” تنذر بانفجار في وجهيهما معا.
…مسيرة العودة الكبرى إذا ما تحققت وقادت إلى صدام جماهيري واسع مع المحتلين، وحيث يواجه عُزَّل بصدورهم العارية عدوهم المدجج، ستكون الشرارة التي سوف تشعل الغضب الوطني، والذي ليس ما سيحول دون صداه وارتداداته من الوصول إلى الساحة القومية، وقد يتعداها إلى الإنسانية، الأمر الذي قلنا إنهم يتحسبون له، والذي يمكن اعتباره رد فعل الشعب الفلسطيني على “صفقة القرن” وأطرافها، الأميركان وإسرائيلهم وعربهم.