اختفت مظاهر تشييع المفاوضات، التي ولدت قبل تسعة أشهر، وانتهت أول من أمس، التاسع والعشرين من نيسان المنصرم، إذ لا مصلحة كما يتضح لأي من الأطراف الثلاثة المنخرطة في المفاوضات، في أن يقفل هذا الخيار وهذا المسار،
أو أن يظهر على أنه الطرف الذي يتحمل المسؤولية عن الفشل. الإسرائيليون كانوا قد علقوا فقط الجلسات التفاوضية على خلفية الموقف من اتفاق المصالحة، والفلسطينيون يواصلون الاستعداد لتمديد المفاوضات ثلاثة أشهر أخرى مقابل شروط، تبدو وكأنها تعجيزية بالنسبة لإسرائيل، أما الولايات المتحدة، فإنها تواصل التأكيد على أنها ملتزمة بمتابعة مسار السلام.
انتهت المهلة المخصصة للمفاوضات، دون أن تسفر عن اتفاق، لكن التسعة أشهر المنصرمة، لم تذهب هباءً، فلقد أكدت مجريات التفاوض أولاً أن إسرائيل بما هي عليه اليوم، لا تبحث عن السلام، وأنها ماضية في مخططاتها الخاصة بالتعامل مع الحقوق الفلسطينية، وثانياً، أن القيادة الإسرائيلية الحالية لا تريد أن تتفهم الدوافع الأميركية، وأن الفلسطينيين ليسوا ضعفاء إلى الحد الذي يجعلهم يقبلون بتسوية يتحملون وحدهم ومن حقوقهم كل تبعاتها.
نعم، الوضع العربي مضطرب جداً، مفكك، وضعيف، ويقتصر على كونه مسانداً قوياً وحامياً راسخاً للحقوق الفلسطينية، ولكن ذلك لا يبلغ حد الانهيار بما يسمح باستسلام فلسطيني وعربي أمام الأطماع الإسرائيلية المدعومة أميركياً.
الظروف إذن ليست جاهزة أو ناضجة لتحقيق اختراق تاريخي أرادته الإدارة الأميركية، لإنقاذ هيبتها وسمعتها ودورها، التي تتدهور يوماً بعد الآخر، ربما لذلك قال جون كيري، وزير الخارجية الأميركية، إنه لو كانت لدينا قيادة إسرائيلية وفلسطينية مختلفة، لكان الأمر مختلفاً.
هل يعكس هذا الكلام، كميناً أميركياً، يحتاج تنفيذه بعض الوقت لتغيير صناع القرارات في إسرائيل وفلسطين؟
كلام كيري جاء في سياق حديث نشره أشهر المواقع الإخبارية الأميركية "ديلي بيست"، وحذر خلاله الوزير الأميركي من أن إسرائيل قد تتحول إلى دولة عنصرية، في حال فشل تطبيق رؤية الدولتين.
الوزير كيري نفى هذا المقطع من حديثه، لكن "ديلي بيست"، أشار إلى أنه حصل على موافقة للتسجيل والنشر، ولكن بغض النظر عن هذه الإشكالية فإن الرسالة وصلت إلى من ينبغي أن تصل إليه.
وبالمناسبة كلام كيري عن إسرائيل العنصرية، لا يخرج عموماً عن تحذيرات سابقة له، وللرئيس باراك أوباما، اللذين قالا في أوقات سابقة، بأن عدم تحقيق رؤية الدولتين من شأنه أن يلحق أضراراً بإسرائيل وبأنها لا تستطيع المراهنة على استمرار الرفاه، والأمن، الذي تنعم به.
في الحقيقة، فإن الولايات المتحدة، تلقت ضربة موجعة من حليفها المشاكس إسرائيل، تصل إلى حد الإهانة، وهي ليست المرة الأولى التي تتلقاها، وسجل العلاقات بين حكومة نتنياهو وإدارة أوباما خلال السنوات الست الماضية يشهد على الكثير من الإهانات التي ألحقتها إسرائيل بالولايات المتحدة، بما في ذلك مؤخراً امتناعها عن التصويت في الأمم المتحدة، إلى جانب الموقف الأميركي بشأن أزمة القرم.
ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن الإدارة الأميركية لن تكون قادرة على إظهار التسامح مع حكومة نتنياهو، التي يعرف كل من له صلة بالشأن السياسي في أميركا وفي غيرها، أنها المسؤولة حصرياً عن إفشال المفاوضات، وأنها أي حكومة نتنياهو قد أحرجت الولايات المتحدة، التي بدت وكأنها غير قادرة على الوفاء بما تلتزم به، حين لم تنجح في إقناع نتنياهو بتنفيذ استحقاق الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين.
بعض التسريبات الصحافية أشارت إلى بدء تحرك مجموعة من الشخصيات الإسرائيلية بالتعاون مع الإدارة الأميركية لصياغة مبادرة سلامية، تقوم الولايات المتحدة بفرضها على الطرفين، غير أن ذلك قد لا يحدث قبل أن تجري بعض العمليات الجراحية.
الولايات المتحدة، التي تواصل تحذير الفلسطينيين من أنها لن تواصل تقديم الدعم المالي للسلطة، في حال تشكيل حكومة تشترك فيها "حماس"، وما لم توافق على شروط الرباعية الدولية، تقف في مربع مغاير للموقف الإسرائيلي من موضوع المصالحة، إذ لا ترى الولايات المتحدة أنها سيئة بالضرورة، وهذا ما صرّح به مستشار أوباما لشؤون الشرق الأوسط نيل جودن يوم الجمعة الماضي، في كلمة ألقاها أمام ممثلي لجنة الرؤساء التابعة للمنظمات اليهودية في واشنطن، قال "لقد كان من الصعب التوصل إلى اتفاق سلام مع نصف كيان فلسطيني في الضفة بدون غزة، وأن أميركا لا ترى سبباً لمعارضة إجراء انتخابات فلسطينية جديدة".
المصالحة الفلسطينية في الأمان عربياً ودولياً، فإذا كان هذا هو موقف الولايات المتحدة، فإن الاتحاد الأوروبي يتخذ موقفاً إيجابياً، ما يعني أن إسرائيل وحدها معزولة في موقفها الرافض جذرياً لهذه المصالحة، لأنها تسدد ضربة للمخططات الإسرائيلية.
الرئيس عباس في كلمته أمام المجلس المركزي أشار إلى المخططات الإسرائيلية حين تحدث عن دولة غزة سيناء، ولكن كان عليه أن يكمل بأن الجزء الآخر لهذا المخطط، يقوم على الانسحاب من طرف واحد، من جزء من الضفة الغربية ودفعه باتجاه الأردن.
فشل مخطط دولة غزة سيناء، لا يعني أن المخطط الإسرائيلي انتهت صلاحيته، فهو ماض في الاتجاه ذاته ولذلك فإن قادم الأيام ستؤكد بأن إسرائيل لن تتورع عن استخدام كل ما لديها لإفشال المصالحة.
من المهم، أن يفهم الفلسطينيون ذلك، وأن يتفهموا تكتيك نزع الذرائع الذي تمارسه القيادة الفلسطينية، والذي باركه عملياً المجلس المركزي لمنظمة التحرير.
الموضوع ليس رفض أو قبول المفاوضات كخيار، كما يرغب البعض من الفلسطينيين أن يصوّر الأمر، ولكن السؤال، رفضاً أو قبولاً، ما الذي يمنع مواصلة العمل لتحصين القلعة الفلسطينية؟ لقد قصّر الفلسطينيون خلال الأشهر التسعة من المفاوضات، تجاه أنفسهم، ولكن أليس من الإنصاف الاعتراف بأن الرأي العام العالمي الآن يتفهم الحقوق الفلسطينية على نحو أفضل؟