ماجد الشيخ منذ سبعين عاماً، يواصل كيان الاحتلال الاستيطاني انتهاج سياسات الطرد والتشريد وارتكاب المجازر، حتى بات التطهير العرقي والعنصرية يتواءمان تماماً مع سياسات الاستيطان ومصادرة الأراضي والاستيلاء عليها بالقوة والتزوير وطرد أصحابها منها بالقسر والإكراه،
وقد صارت مثل هذه التوأمة نهجاً ثابتاً لحكومات الاحتلال وقطعان المستوطنين، مؤيدين بسياسات دولية يقف اليمين الأميركي في عز ازدهاره الترامبي الحالي، وقفة داعمة ومساندة دائمة، تخطت اليوم كل المواقف التقليدية للإدارات الأميركية المتعاقبة، لا سيما في الآونة الأخيرة بعد قرار الإدارة الترامبية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونية الإدارة نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
ووفق تأكيد ترامب أخيراً في دافوس «فإن مشكلة القدس انتهت، وتم إنزالها عن طاولة المفاوضات، ولا حاجة إلى مزيد من الحديث حولها». ليس هذا فحسب، فالإدارة الحالية باتت الداعم الأول والرئيس لمخططات الاستيطان والمستوطنين، وتأييد سياسات الحكومة الاحتلالية، وصولاً إلى إعلان الانحياز لها في المفاوضات واعتماد «صفقة القرن» الترامبية سياسة استراتيجية مكشوفة، بعيداً من سياسات الإدارات الأميركية السابقة في تأييدها اللفظي لحل الدولتين وتجميد الاستيطان ودعم السلطة.
ما يحصل اليوم على مسرح الاستعراض الجدي الترامبي، محاولة استبدال كل ذلك بما يناقض تلك السياسات، وجميعها تشكل اعتداءً صارخاً على الحقوق الشرعية السياسية والطبيعية للشعب الفلسطيني، وصولاً إلى سلبه حقوقه الإنسانية والاعتداء عليها، من خلال ما تقدمه واشنطن للأونروا، ما اضطر رؤساء 21 وكالة إغاثة إنسانية لإرسال رسالة إلى إدارة ترامب، للاعتراض «بأشد العبارات» على قرار بتعليق 65 مليون دولار من المساهمات الأميركية المقررة لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
ولم تكتف الإدارة الترامبية بذلك، بل هي تريد أن تذهب بعقوباتها ضد القيادة الفلسطينية والفلسطينيين عموماً شوطاً أو أشواطاً أبعد من ذلك، طالما أن الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية ومصالح الجهتين المتطابقة باتت تستدعي الدخول في خطوات عملية لتركيع المفاوض الفلسطيني، وجعله يتعاطى إيجاباً مع فرصة بدء تطبيق «صفقة القرن»، وهذا ما يستدعي مقدماً توسيع دائرة العقوبات وإيقاع أشد الأضرار ضد الفلسطينيين، في محاولة يائسة لدفعهم إلى القبول بما يعرض عليهم، وإلا فإنهم سيخسرون ما يتمتعون به من «امتيازات» الوقت الضائع، في حال بقيت القيادة الفلسطينية تعاند في رفضها الاستجابة لطلبات المضي بالتعاون لتنفيذ بنود هذه الصفقة.
ولهذا توعد ترامب الفلسطينيين بمزيد من تقليص المساعدات الأميركية، في حال رفضهم العودة إلى طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين، قائلاً: «ينبغي أن يظهروا الاحترام للولايات المتحدة وإلا فإننا لن نمضي قدماً».
ونقل موقع «ميكور ريشون» الإثنين 22 كانون الثاني، عن مصدر في البيت الأبيض، أن مواقف السلطة «المتشنجة» وضمنها مقاطعة زيارة بنس، لم تثر انطباع ترامب وأركان إدارته. ووفق المصدر، فإن ترامب وفريقه يراهنون على عامل الوقت في «ترويض الفلسطينيين» ودفعهم للموافقة في النهاية على التعاطي مع الصفقة.
وفي دافوس أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش مؤتمر دافوس، التزام واشنطن بنقل السفارة الأميركية إلى القدس في وقت ما خلال العام المقبل، مشيراً إلى «أننا منحنا الفلسطينيين مئات الملايين من الدولارات وقوبلنا بعدم الاحترام».
بين الاستيطان والتطهير العرقي اللذين يتواصلان الآن في طول الأرض الفلسطينية وعرضها، وبدعم غير محدود من اليمين الأميركي الترامبي، تواصل سياسات «صفقة القرن» ترسيم خطوطها العريضة والتفصيلية، حتى لم يعد هناك من خطوط حمراء، يمكنها أن تلجم اندفاعات حكومة يمين متطرف تلقت أكثر من ضوء أخضر، من يمين أميركي أكثر تطرفاً وشعبوية، وأكثر انسجاماً في ترسيم حدود للشراكة ضمن قيم الاستعمار الحديث، و«صفقة القرن» واحدة أو النتاج الأبرز لشراكة من هذا القبيل.
هكذا وجد الإسرائيليون والترامبيون ومن لف لفهم، أن عامل الوقت والواقع المزري، يعمل لمصلحتهم، ما جعلهم يؤثرون العمل على استثمار مثل هذه الفرصة، لإعادة الاعتبار لقيم الاستعمار القديم، ولكن بأساليب حداثية تتوافق وأخلاقيات التعصب والعنصرية، وقد وجدت مشتركاتها راهناً، كما عملت تلك المشتركات ذاتها في تنفيذ ذاك الوعد المشؤوم (وعد بلفور) قبل سبعين عاماً، ومن يومها والصراع يستمر ويزداد تعقيداً، ولا يجد له أي مخرج جاد وحقيقي، يفضي إلى تسوية عادلة ومقبولة من جانب الفلسطينيين، أصحاب القضية، وهم وحدهم من يملكون الكلمة الأولى والأخيرة في شأن تسويتها بما يتوافق وكامل حقوقهم وحقوق أجيالهم السياسية والأهلية والوطنية والإنسانية.
لكن وبوجود «صفقة القرن» وبنودها ونيات «المتعاقدين» لفرضها واقعاً ووقائع، وضمنها قرار القدس الهادف إلى محاولة إخراجها من جدول المفاوضات، وتكثيف الاستيطان فيها، بما يضمن البدء في تنفيذ مشروع القدس الكبرى، ومدها نحو البحر الميت، والاستيلاء بالكامل على الممرات من الشريط الساحلي إلى غور الأردن، وجعلها الحدود النهائية، في حسم لمسألة الحدود أيضاً، كل هذا إلى جانب سياسات الاستيطان والتطهير العرقي والتهويد المتواصل، تستمر حكومة الاحتلال بالعمل على خطة سرية لشرعنة البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية، غير عابئة بتقسيمات أوسلو لمناطق الضفة، إلى جانب تسريع وتيرة الاستيطان في الأغوار، وذلك في سياق مخطط يقضي بدمج أربع مستوطنات (شديموت ميخولا، وروتم وجفعات ساليت ومسكيوت) ضمن تكتل استيطاني كبير، ليكون أول مدينة استيطانية يقيمها الاحتلال على أراضي الأغوار الشمالية، وبما يخدم مخطط تهويد منطقة الأغوار واجتثاث الوجود الفلسطيني فيها.
وضمن سياسة التطهير العرقي المتواصل، وتجسيد عنصرية الكيان الاستعماري الاحتلالي، واصلت جرافات الاحتلال هدمها قرية العراقيب في النقب، للمرة الـ124، مسجلة رقماً قياسياً في الإرهاب والتمييز العنصري، ففي الوقت الذي يطلق العنان للاستيطان الاستعماري، يمنع أهالي العراقيب من بناء منازل فوق أرضهم، وحوّل حياتهم إلى جحيم لا يطاق، عبر تكرار عمليات الهدم والاستهداف ومصادرة الأراضي.
على هذه الركائز الثلاث العنيفة والقاسية، يراد لـ«صفقة القرن» أن تكون وجه العملة الآخر، للمضي في تنفيذها ولو باستخدام عنف أشد وقسوة أكبر، وشنّ حرب إنسانية مضافة إلى حروب اعتاد الشعب الفلسطيني على مواجهتها منذ أكثر من سبعين عاماً، بل منذ قرن مضى، حين بدأت السياسات الاستعمارية الغربية تجد انسجامها وتوافقها مع تلك الأساطير المؤسسة لخرافات «الميعاد» التوراتية، وها هو العهد الترامبي الجديد، يجدد توافقاته وانسجامه مع تلك الخرافات، عامداً أو عاملاً على تجديد عهد الاستعمار الاستيطاني بدمج عهدين مفترقان أصلاً، لكن التماهي مع الخرافة المؤسسة، يجد فرصته الضالة في إعادة تأسيس مسارب جديدة للاستعمار بطبعته الاستشراقية الاستيطانية.