قبل أيام، تداولت وسائل الإعلام العالمية، مؤتمراً صحافياً لوزير الخارجية الأميركي جون كيري، لم يكن هذا المؤتمر بالغ الأهمية، مع ذلك، فإن ما تم تناقله يعكس صورة للسياسة الأميركية الراهنة، هناك كلب، وهناك مترجمة لغة الصم والبكم في هذا المؤتمر،
كلاهما حاز على اهتمام المشاهدين والمتابعين لهذا المؤتمر، فقد اصطحب جون كيري كلبه المطيع إلى المؤتمر، بدون أن يفسّر أحد أسباب ذلك، الكلب المطيع استشاط غضباً في إحدى اللحظات التي كان يدلي كيري بتصريحاته وقفز على المنصة أمام الميكروفون، ورغم إشارات كيري للكلب كي يهدأ، إلاّ أن ذلك لم يحدث، أما المترجمة للصم والبكم، فقد قامت بترجمة إشارات وكلمات كيري عندما حث الكلب على الهدوء أكثر من مرة.. التعليقات على هذا المشهد كثيرة، لكن جميعها أجمعت على أن كيري غير قادر على السيطرة على كلبه المطيع، فهل يقدر على السيطرة، أثناء ممارسة الولايات المتحدة لسياساتها، بما فيها تلك المتعلقة بملف المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية؟!
على الأغلب ـ وكما سنرى ـ أن كيري قد ندم على الذهاب إلى المؤتمر الصحافي برفقة كلبه، فقد تأكد للجميع أنه لم يحسن تربيته وأن كلبه يتمرد عليه، لكن كيري أصبح مدمناً على "الندم" فطوال الفترة الأخيرة، فاقت تصريحات "الندم" غيرها من التصريحات، ونتذكر جميعاً، وفي الأسبوع الأول من نيسان الجاري، أنه ندم على تصريح أدلى به قبل ساعات من إعلان ندمه، عندما أشار إلى أن إسرائيل تتحمل مسؤولية إفشال المفاوضات مع الفلسطينيين عندما رفضت الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين لديها والإعلان عن بناء وحدات استيطانية في القدس الشرقية.. كلنا يتذكر الضجة التي افتعلتها إسرائيل وأعضاء في الكونغرس الأميركي إثر هذا التصريح، الذي سرعان ما ندم عليه وزير الخارجية الأميركي، وأثناء الإعراب عن ندمه على هذا التصريح، أشار إلى أن الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي يتحملان سوية فشل العملية التفاوضية، لكن هذه ليست المرة الأخيرة التي يضطر فيها كيري إلى عضّ أصابعه ندماً، ولحس تصريحاته فيما يتعلق بالمفاوضات على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
فأمس فقط، نشرت وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية، ندماً مزدوجاً، أقدم عليهما جون كيري، إثر استخدامه لفظ أبارتهايد ـ نظام عنصري، عندما أشار إلى أن عدم تحقيق رؤية الدولتين لشعبين وفشل المساعي السلمية، من شأنه أن يحوّل إسرائيل إلى دولة أبارتهايد، وبعد أن شنت إسرائيل وأعضاء في الكونغرس واللوبي الصهيوني حملة شعواء، لم تستمر طويلاً، قال كيري إنه لم يستخدم أو يقول هذه العبارات، ثم عاد للقول إنه بالفعل استخدمها، مشيراً إلى أنه أساء اختيار الكلمات والألفاظ ويتمنى لو عادت الأمور إلى الوراء، كي يستخدم عبارة أفضل وهي "إن الطريق الوحيد لإقامة دولة يهودية، يكمن في إقامة دولتين تعيشان جنباً إلى جنب بأمن وسلام".
تصريحات يعقبها إبداء الندم وتصحيح واعتذار، هذا هو ملخص المشهد الذي تكرّر مع كيري بعدما تبيّن أن رعايته للعملية التفاوضية قد فشلت، وهي انعكاس طبيعي لتراجع الولايات المتحدة سياسياً، في منطقة الشرق الأوسط، كما في كل الملفات الدولية، والإرباك الذي تشهده الولايات المتحدة سياسياً ما هو إلا انعكاس لتراجع هذا الدور، ومن هنا يمكن أن نلحظ أن العديد من مراكز الدراسات والأبحاث الأميركية، أخذت تعنون دراساتها وأبحاثها تحت عناوين تتعلق بضرورة أن تراجع إدارة أوباما سياساتها، وقيل إن الجولة التي قام بها مؤخراً الرئيس أوباما إلى منطقة جنوب شرق آسيا، جاءت بعد أن أعربت دول تلك المنطقة عن خشيتها من تراجع التأثير الأميركي وانعكاس ذلك على مصالحها، ولتأكيد ذلك، فإن خطابات أوباما في العواصم التي زارها في تلك المنطقة، أكدت على حرص واشنطن على حماية مصالحها ومصالح حلفائها.
غير أن البعض قد يرى في هذا الارتباك "سياسة مقصودة" لإرسال رسائل لإثارة الضجيج وإصلاح السياسات، غير أن هذه الرؤية تأتي في إطار التفسير المؤامراتي للسياسة الأميركية، وليس من صالح هذه السياسة ولا رئيسها أن يبدي الندم والاعتذار بعد كل تصريح له، صحيح أن هناك بعض المرات التي يمكن للسياسي أن يقدم على هذا الأمر، بناءً على دراسة وافية والتعرف على ردود الفعل، غير أن ما أقدم عليه كيري، لا يخضع لهذه الشروط، بل يخضع لظروف الإرباك والارتباك التي تسود السياسة الأميركية، من الملف السوري إلى الملف المصري، وكذلك الملف الأوكراني، وبالتأكيد الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن تحاول واشنطن التمديد للعملية التفاوضية على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، غير أن هذا التأكيد لا يغلب عليه الحماس، بقدر ما تغلب عليه ضرورات الاستمرار في تأجيل إعلان فشل واشنطن على هذا الملف، إذ أن هناك قناعات باتت مدركة لدى البيت الأبيض، أن التمديد للمفاوضات هو تمديد للفشل، خاصة بعدما أكد الرئيس أبو مازن في اجتماعات المجلس المركزي الفلسطيني مؤخراً، على اشتراطات من شأنها في حال التمديد للمفاوضات أن تفضي إلى نجاح العملية التفاوضية، غير أن واشنطن تدرك، أيضاً، أن إسرائيل لن تقبل بهذه الشروط!!