د.إبراهيم أبراش الصفقة الكبرى، صفقة القرن، الصفقة التاريخية، الحل الإقليمي ..الخ، كلها مسميات لمشروع تهيئ له الإدارة الأمريكية لتسوية الصراعات في الشرق الأوسط ومن بينها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي .مع أنه مشروع ما زال قيد الإعداد ولا توجد نصوص أو معلومات كاملة حوله،
إلا أنه أثار كثيرا من الجدال والنقاش والتخوفات عند كل الأطراف في الشرق الأوسط، ومبعث القلق ليس فقط مما سيتضمنه المشروع من تصورات وحلول بل من شخصية الرئيس ترامب ومواقفه المثيرة للجدل وغير المستقرة فيما يتعلق بكل سياساته الخارجية.
من حيث المبدأ فإن الحديث عن مشروع تسوية سياسية يتم الإعداد له من طرف الإدارة الامريكية، وبغض النظر عن مسماه، ليس بالأمر الجديد، فمنذ إطلاق عملية التسوية السياسية في مؤتمر مدريد للسلام 1991 وكل رئيس أمريكي جديد يطرح مشروع تسوية جديد متجاهلا مشاريع الإدارات السابقة أو يُدخل عليها تعديلات بما يتوافق مع شخصيته ومع المتغيرات الدولية والإقليمية ومع أولويات الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط.
في جميع هذه المشاريع التسووية كانت الإدارات الأمريكية منحازة لإسرائيل وكلها مشاريع ليست جادة في حل الصراع بل تهدف للإمساك بمفاتيح إدارته والحيلولة دون انفجاره ومنع أية جهة دولية من التدخل بهذا الملف، والصفقة الكبرى أو مشروع ترامب لن تخرج عن هذا السياق.
بالرغم من البعد الزماني وما طرأ من تغيرات إقليمية ودولية فإن هناك ما يستحق المقارنة بين ما تسمى صفقة القرن للرئيس ترامب ورؤية بوش الأب للتسوية السياسية والتي كانت أساس مؤتمر مدريد للسلام 1991 واتفاقية أوسلو 1993، حتى يمكن القول بأن ما يجري اليوم محاولة إنجاح ما فشل في مدريد 1991 أو نسخة محدثة عنه (مدريد 2)، ولكنها نسخة مطبوعة بطابع شخصية ترامب الاستعراضية وتعامله مع السياسة كما يتعامل مع الاقتصاد أي بلغة الصفقات، فكما خلد اسمه من خلال برج ترامب الشهير في مانهاتن في نيويورك يريد تخليد اسمه من خلال صفقة سياسية في الشرق الأوسط.
أوجه الشبه تكمن في التعامل مع الصراع كصفقة شاملة بحيث تتداخل القضية الفلسطينية مع الصراع العربي الإسرائيلي والرغبة في التطبيع بين إسرائيل والعرب ،مع ملف الإرهاب ونبذ العنف والتحريض، أيضا من خلال تحريك الملف الفلسطيني ليس بهدف حل القضية الفلسطينية بل لتسكين حدة الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين حتى لا ينفجر الصراع بينهم بما يؤثر سلبا على المساعي الأمريكية لإعادة رسم سياساتها وتكريس هيمنتها دوليا وفي منطقة الشرق الأوسط.
وعلى هذا الأساس نعتقد أن تهويلا في الحديث عن الصفقة الكبرى وكأنها أمر جديد غير مسبوق في نهج تعامل الإدارة الامريكية مع صراعات المنطقة، فما هو مطروح أو سيتم طرحه هو (مشروع تسوية) مفتوح على كل الاحتمالات، وكما أن مشروع التسوية الذي دشنه مؤتمر مدريد أستمر لأكثر من ربع قرن دون حل الصراع بل وظفته إسرائيل بما يعزز احتلالها وسياساتها الاستيطانية فإن الخشية من أن مشروع الصفقة الكبرى سيجر الفلسطينيين لمفاوضات أكثر عبثية من مفاوضات أوسلو وعلى أرضية ومن مرجعية أكثر سوءا من مرجعية مدريد وأوسلو.
مع أننا لا نعتقد أنه يبدو في المدى القريب واعتمادا على موازين القوى الراهنة ومواقف وسياسات الحكومة الإسرائيلية إمكانية لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي حلا يلبي الحد الأدنى من الحقوق السياسية للفلسطينيين حتى في إطار قرارات الشرعية الدولية وذلك بسبب الرفض الإسرائيلي لهكذا حل، إلا أن تخوفاتنا مما تسمى صفقة القرن تتأتى من خلال التالي:-
1- كل تصريحات ومواقف رموز الإدارة الأمريكية تؤكد انحيازا غير مسبوق لإسرائيل، سواء تعلق الامر بالتراجع عن حل الدولتين أو الموقف من الاستيطان أو من نقل السفارة الامريكية للقدس، كذا تجاهل قرارات الشرعية الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية: قرار التقسيم 181 وقرار عودة اللاجئين 194، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره السياسي على أرضه.
2- محاولة تطويع كل الحالة الفلسطينية لمتطلبات التسوية السياسية من خلال المزج ما بين المصالحة الفلسطينية والتسوية السياسية وجر حركة "حماس" لمربع التسوية من خلال مطالبتها بالاعتراف بإسرائيل والتخلي عن سلاح المقاومة.
3- ما يتم الحديث عنه صفقة تتضمن مجرد مشروع تسوية من أهدافه تسكين الحالة الفلسطينية حتى تتفرغ واشنطن ودول المنطقة للقضايا الأخرى، وعليه سيكون الفلسطينيون شاهد زور في هذه الصفقة.
4- تجاهل المبادرة العربية للسلام التي تضع مطلب إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية قبل التطبيع مع إسرائيل، حيث تسعى إدارة ترامب لفرض التطبيع مع إسرائيل قبل حل القضية الفلسطينية وقيام الدولة.
5- يبدو أن الرئيس ترامب لا يؤمن بالشراكة في السياسة الدولية، وفي ظل توتر علاقته بروسيا الاتحادية وعدم ثقته بالأمم المتحدة، فمن المتوقع أن تكون صفقة القرن من حيث صياغتها والإشراف عليها أمريكية خالصة، وهذا معناه تجاهل الاتفاقات الموقعة السابقة وخطة خارطة الطريق واللجنة الرباعية.
6- محاولة توظيف حالة عدم الاستقرار في المنطقة وضعف مواقف كل الدول العربية تجاه واشنطن لإعادة ترسيم حدود المنطقة بما فيها حدود دولة فلسطين المأمولة بما يلغي فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967.
7- جر المفاوض الفلسطيني للعودة إلى المفاوضات دون الأخذ بعين الاعتبار الشروط التي وضعتها القيادة الفلسطينية للعودة للمفاوضات وخصوصا: وقف الاستيطان أو تجميده خلال مرحلة المفاوضات، تحديد مرجعية واضحة للمفاوضات، إطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين، وسقف زمني محدد. هذا يعني أن المفاوضات القادمة ستكون أكثر عبثية وتداعياتها أكثر خطورة من سابقاتها.
وأخيرا وإلى حين تبلور الصفقة وطرحها رسمياً فعلى الأطراف الفلسطينية عدم الإصابة بالهلع والتخبط أو التسابق على تقديم تنازلات لمهندسي ومقاولي هذه الصفقة، فالأمر ما زال مجرد أفكار وعندما تنضج ستكون مجرد مشروع تسوية مفتوحا على كل الاحتمالات، واحتمال فشله أكبر من احتمال نجاحه.