فلسطينيون في مخيمات الشتات اللبناني: الإغاثة بـ"التقطير" يبتسمون رغم الألم، فتطل الحياة من عيونهم البريئة على زمان بات فيه الحلم صعباً، ينتظرون عاماً ملؤه الأمل، لا يأخذ من العام الذي قبله سوى اللحظات الجميلة.. ولكن هيهات
أن ينال هذا الفلسطيني الفرح كله، دون أن تخالطه المرارة، والخيبة.. ترى لماذا يدفع الفلسطيني الثمن دائماً؟؟
معاناة
تبدأ حكاية اللجوء الثاني من مخيمات سوريا إلى مخيمات الجوار في بلدان تدعى شقيقة وأخرى غريبة عن هذا الجوار، ويبدو الشعور متعباً غريباً ومرعباً عندما يعانقك اللجوء لمرتين!
من داخل الأزقة الضيقة في مخيم شاتيلا تبدأ حكايتنا، حيث يقودنا الطريق بحثاً عن اللاجئين الفلسطينينن القادمين من مخيمات الشتات السورية، ليؤرخوا ها هنا بداية حكاية للجوء جديد. سرعان ما ينتهي بنا الطريق إلى مكان يحتاج لوقت طويل وجهد كبير ليصبح برتبة منزل صالح للسكن
يعيش نادر حزينة (أبو محمد)، وهنا يبدأ الرجل رحلة اللجوء الجديد مع أسرته المكونة من خمسة أشخاص، بعد خروجهم من مخيم اليرموك، في ظل ظروف قاسية، و"لهول ما شاهدناه في رحلة الخروج من مخيم اليرموك، وصولاً إلى هنا، وجدنا هذا المكان جنة ما دام سيؤوينا"، يقول أبو محمد، مضيفاً: "لم أتوقع الخروج من سوريا إلا إلى بلدي في فلسطين، بس وجعنا كبير يا بنتي وجعنا كبير".
يتنهد الرجل وهو يحدثنا عن معاناة خروجهم، آهات صدره كادت تحرق حروف كلماته، قبل أن يكتم وجعه ابتسامة ساخرة تملأ وجهه، وهو يقول: "الأونروا مشكورة قدمت لنا بعض المساعدات، وعلى مدار فترات طويلة كانت ترسل إلينا رسائل نصية كتب فيها أن الدول المانحة قدمت لنا مساعدات سخية، ولكننا لم نر من هذا السخاء منذ سنة ونصف سوى أربع معاشات أكبر معاش فيها لأسرة مكونة من خمسة أشخاص 300 دولار
تقاطعه زوجته أم محمد قائلةً: "تصوري 300 شهرياً لخمسة أشخاص... ثم يخرجون علينا بوجوب تجديد إقامتنا هنا بـ200 دولار لكل فرد في الأسرة من أين لنا هذا؟!! نحنا مش جايين سياحة لهون"... وتتابع السيدة الأربعينية: "أول ما أتينا ساعدونا بكرتونة مونة و3 فرشات و3 حرامات لكل عيلة حتى لو عددهم سبعة أو عشرة.. بعدها لم نر منهم شيئاً".. تصمت المرأة، فيما تواصل عيونها حديث الألم، ألم يخالطه صمود... وعلى نحو لا تختلف فيه عن أي أم فلسطينية.
ويخبرنا من كان برفقتنا إلى هناك أن السيدة مريضة وتحتاج لمتابعة ألم أصابها في صدرها وإلى إجراء فحوصات وصور شعاعية.. لكنها لا تقوى على أبسط تكاليف مثل هذا العلاج، فزوجها لا يعمل والمساعدات أقل من أن تكفي قوت يومها هي وزوجها وأولادهم الثلاثة.
تأمل عائلة أبو محمد وأسرته المكونة من خمسة أشخاص أن يعودوا إلى منزلهم في مخيم اليرموك مستبشرين عاماً جديداً ينسيهم قسوة ما ألم بهم في الأعوام التي مضت
سأعود يوماً
في الطابق الثالث في بناء وسط مخيم شاتيلا تسكن أسرة مؤلفة من ثمانية عشر شخصاً في غرفتين صغيرتين عدد الأطفال فيهما أكثر من عدد الكبار.. أم إياد أكبر العائلة سناً، امرأة في الستينات من عمرها ترتسم على وجهها علامات اللجوئين ورغم ذلك لم تفارق الضحكة وجهها منذ أن بدأت الحديث معنا وحتى لحظة توديعنا، تقول أم إياد، بلهجة يشوبها العتب: "الأونروا تقدم لنا المساعدات كل شهرين أو ثلاثة ولكنها لا تغطي جميع مستلزماتنا ومستلزمات الأطفال".. مضيفة بصوت ملؤه الثقة والأمل: "بتمنى أرجع على بلدي بفلسطين أقعد لو بخيمة على طراف بلدي بكرامتي"، كأنها كانت تريد أن تقول أنها لا تريد كل إعاشاتهم ها هنا، وأن لها وطن سيلفها بكرامته
إحصاءات اللجوء
الكثير من العائلات الفلسطينية لجأت من مخيمات سوريا إلى مخيمات لبنان وخاصة من مخيم اليرموك ومنطقة السيدة زينب والحجر الأسود وخان الشيح وغيرها من المخيمات والتجمعات الفلسطينية داخل سورية، وتشير الإحصاءات الأخيرة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" أن عدد المهجرين الفلسطينيين داخل لبنان وصل إلى مئة وخمسين ألف مهجر يتوزعون كالتالي: (32 % صيدا -19 % صور - 17 % بيروت - 16 % طرابلس والبقاع) مع العلم أن 52 % يعيشون داخل المخيمات اللبنانية، وهذا العدد مرشح للازدياد بوتيرة متصاعدة
وجع يحمل وجع
الشخص الذي أوصلني إلى هذين المنزلين، يدعى عصام منصور (أبو جهاد) وهو عضو في لجنة متابعة المهجرين الفلسطينيين النازحين من سوريا إلى لبنان.. ولكن الرجل نفسه واحد من اللاجئيين، ويتقاسم معهم وجع اللجوء ذاته ومكابداته.. وهو سرعان ما بدا لنا واقعاً مؤلماً، حين صعدنا إلى منزله، لنكتشف أنه ليس سوى غرفة بائسة بسقف يدلف من كل مكان، بقطرات مطر تشهد بحجم المرارة والمعاناة التي تعيشها هذه أسرته.
داخل الغرفة الباردة قابلتنا زوجة أبو جهاد وبصوت جمع مرارات العالم أجمع تحدثت إلينا: "ولدي أصيب في مخيم اليرموك من إحدى القناصين "ولاد الحرام" وهو يحتاج الى عملية لكني لم أجد مساعدة من أحد بعد أن ذهبت إلى أكثر من مكان قصدتهم لكنهم أجابوني بـ100 دولار لعملية تحتاج الى خمسة آلاف دولار ماذا أنتظر من قيادتنا وفصائلنا بعد ذلك
أبو جهاد وبصفته عضواً في لجنة متابعة المهجرين، يقول: "نحن مؤسسة خيرية نقدم للعائلات المهجرة يد العون والمساعدة فنؤمن لهم المأكل والمأوى لمدة شهر كامل وبعدها يجب عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم وكلما حصلنا على مبلغ من مكان خيري نوزعه بشكل عادل على أكثر العائلات حاجةً
مسؤول اللجنة محمود السرساوي (أبو ناجي) لم يكن أفضل حالاً من حال المهجرين الآخرين فهو يعيش هذا اللجوء وهذه المعاناة بتفاصيلها، لكنه في الوقت نفسه يضع نفسه مسؤولاً في مواجهة هذه المعاناة، سألناه هل يقوم بتقديم أولوياته وأوليات منزله على أوليات المهجرين الآخرين، فيخبرنا بصوت مليء بالقوة والإرادة: "نحن جزء من المهجرين ولسنا من عالم آخر، والأولوية للآخرين وليس لنا وذلك لخلق المصداقية والشفافية بين مؤسستنا وبين النازحين حتى لو كنت واحداً منهم، وإذا لم أتعامل معهم بوضوح وآثرت نفسي عليهم لن يثقوا بي مرة أخرى على الإطلاق، وخلق الثقة هي أهم سر للتعامل بين أي لجنة وبين المهجرين المحتاجين".
واليوم إلى متى سيدفع الفلسطيني ثمن حروب لا ناقة له فيها ولا جمل؟ وهل سيبقى مصير الفلسطينيين النازحين من سوريا إلى البلدان المجاورة متجهاً نحو المجهول في ظل غياب أي حل في المنطقة مع دخول الأزمة عامها الرابع.