.. لا يخرج الصوت من كلماته في هذا النهار فقد فارقتنا، وتركت لنا أصوات الرصاص في كل مكان، فنحن كما قلت «لولا السراب لما صمدنا» ومازالت غرفنا وزنزاناتنا في أقبية قصور السلاطين والملوك والأمراء والرؤساء...
* * *
في الذكرى التاسعة لرحيله: ماذا تبقى من محمود درويش وأسطورته؟
عبد اللطيف الوراري
قبل تسعة أعوام، رحل عن عالمنا الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ولكَمْ كان رحيله صادمًا مؤثِّراً بالنسبة إلى كثيرين من محبّيه وقرائه عبر العالم؛ فقد كان في أوج عطائه الإبداعي، وكانت مقترحاته في صميم تجربته الشعرية تتوالى بشكل مدهش ونادر.
في ذلك التاسع من أغسطس/آب 2008، توقف قلب الشاعر بعد عمليّة جراحية له، ولم تشأ الأقدار أن يخرج ظافراً منها بالحكمة والشعر، كما حصل في عامي 1984 و1998؛ فقد بدا أنّ الأسطورة التي نهضت من ملل امتلائها، ومن زخم بلاغتها وقعت على بياض هو ذاك البياض الذى حرّره ذاته من تاريخها، وارتفع بشعره إلى مرتبة الشّعر الصافي الذي كان يحلم به حتّى سعى إليه بقدميه. هكذا، كان الشاعر قد رمى بالنّرْد بين أكفّنا المعروقة، وخلد إلى الأبد حيث يأخذه الإيقاع إلى ضفاف أخرى، لا هي شرقيّة ولا غربيّة. مات الشاعر لتحلّ مكانه الأسطورة التي انبثقت من جراح المعنى، من معنى التاريخ إلى ضياعه في سيرة الذات وأحوال البلاد. وكانت هذه الأسطورة قد تكوّنت، لآمادٍ وحيواتٍ، في الشعر وعبره.
ليست هذه الأسطورة سوى ما كان يعنيه الشاعر نفسه، بأنّها «ذاكرةٍ متخفّية، لتحمي الشعر من غلبة الجيش على الإيقاع وعلى تاريخ القمح، ولتحمي الزمن من هيمنة الراهن». كان للمأساة الفلسطينية تأثير بالغ في تشكيل ملامح الأسطورة؛ حيث يتّخذ شعره وجه الأسطورة التي تحيا بجراحها الجماعية والذاتية، وتجعل من أخلاقيّات عملها المعرفي والجمالي صورة القصيدة التي كتبها وكابد من أجلها باستمرار. داخل غنائيّته الخاصة والمحتمية بندوبها، يتآلف التاريخ والحداثة والذات، ولا يُخطئ العمل عبرها قول الحقيقة، ويحرص على أن تتردد في الآتي؛ في مجهول معناها.
داخل الأسطورة بوصفها إمكاناً ذا أهميّة قصوى في البحث عن حركة المعنى، الحيويّة والمهدّدة أكثر، التي تعود بالقصيدة إلى بعدها الأول، وإلى بلاغتها الأولى، كانت تتحرّك شعريّة محمود درويش. لهذا، نجد في كلّ عملٍ شعريٍّ له، بعد «ورد أقلّ» على الأقلّ، قاعاً أسطوريّاً يضيء استعاراتِ وحلولاً ممكنة لتجربة الغياب التي تصطرع في وعي الذات التي سلبها الآخر تاريخها بالأساطير المحفورة بالنار والحديد. كان يصنع الأسطورة الفلسطينيّة خارج الصور النمطيّة التي تكوّنت عنها، وصارت عبئاً عليها، بعد أن كثّفها في روحه، وارتفع بعذابها الأرضي إلى مرتبة الإنساني العالي، ولم يعد يرهنها بالشعاري والسياسي الضيق التي حوّل مفرداتها إلى مادّة ضجر.
لاستعادة الشاعر وصورته وأسطورته، طرحت «القدس العربي» مثل هذه الأسئلة على بعض شعراء العربية الذين عاصروه وتابعوا مشروعه الجمالي: ما هو وضع الشعر الفلسطيني اليوم؟ وإلى أي حد استطاع أن يتحرر من أسطورة محمود درويش؟ وماذا تبقى من هذه الأسطورة نفسها في راهن الشعر العربي؟
مشروع الشاعر
يرى الشاعر الفلسطيني غسان زقطان أنّ «مشروع درويش الشعري قائم ويتمتع بحيوية مدهشة وقدرة على التأثير، التجربة الثرية التي تركها محمود درويش عبر منجزه الإبداعي تذهب أبعد وأعمق وتتعرض لقراءة مختلفة في كل مرة. القراءة التي تغتني بالراهن تمنح مثل هذه التجربة الخاصة غنى وحضوراً، وتضيء على ظلالها في كل مرة. لقد كان رحيل محمود مؤلماً وصادماً، بدون شك، ولكنني أرى أن استعادة حضور الشاعر تكمن في قراءته قبل كل شيء. ما زلنا نقرأ المتنبي بعد عشرة قرون من رحيله، ونصطدم بمجايلته وجديده وحداثته وتأثيره الراسخ في مناطق كثيرة من تجارب الراهن، هذا ينطبق على امرؤ القيس وطرفة والشنفرى والحمداني والمعري.. إلى آخر هذه القافلة المذهلة. لعل هذه القوة التي يتمتع بها الشعر العربي بتواصله وحضوره، تميزه عن ثقافات أخرى».
وبحكم الهالة التي تمتع بها محمود درويش، سألنا غسان عما إذا غدا الشاعر حجاباً للشعر الفلسطيني، أم دافعاً لتجديده وتطوير جمالياته؟ فقال: «شكّل مشروع درويش تحدياً مركزياً في المشهد الشعري الفلسطيني والعربي، في كل مرحلة من مراحل منجزه، بما فيها مرحلة البدايات المبكرة التي ارتبطت بالمقاومة وتداخلت مع الأيديولوجيا وتأثيرات قوية لشعراء آخرين مثل، نزار قباني، لعل جغرافيا البدايات وزاوية التناول منحت تلك القصائد المباشرة بنبرتها السياسية الواضحة والقاموس الجديد الذي يخاطب العدو عبر تماس جسدي، حضورها وتأثيرها الذي لا يزال متصلا إلى الآن». وتابع: «سيذهب محمود أبعد في مشروعه في المراحل اللاحقة، وسيدخل مناطق شبه محرمة، مستفيداً من الجغرافيا ومعرفته الخاصة بثقافة الآخر واحتكاكه اليومي بمجتمع طارئ، يخفي قلقه الوجودي تحت قناع عنصري، ويستمد أحداث روايته من خليط غيبي ومادي. في تلك النصوص قدم محمود هويته بقوة ووضوح، ولكنه جرد العدو من أكثريته واستدرجه كفرد في ما يشبه اكتشاف الشق في الجدار، فظهرت نصوصه الجديدة تماماً على الذائقة العربية، مثل «ريتا» أو «جندي يحلم بالزنابق البيضاء»، لقد استطاع بضربة واحدة أن يؤنسن العدو ويعيده إلى عاديته، وفي الوقت نفسه أن يدرب الذائقة العربية على تقبل عدو يمتلك هيئة بشرية وأن يعمق مفهوم «المقاومة» ويمنحه أفقاً جديداً. حتى في نصوص مثل «سجل أنا عربي» استطاع أن يقدم صورة للعدو المنتصر الذي لن ينجز انتصاره على الهوية، «العدو المنتصر» لم يكن موجوداً في النص الفلسطيني والعربي بالوضوح الذي قدمه درويش، حتى في ما بعد عندما تتالت «انتصارات» العدو، واصل الشعر الفلسطيني الحديث عن عدو بلا ملامح حقيقية، بلا حضور جسدي وبلا ظل، عدو ميت ولكنه يواصل انتصاره خارج القصيدة، أو الحديث عن الخسارة التي تسبب بها «شبح» بمرتبة عدو. درويش ذهب مباشرة إلى عدوه وفككه ومنحه ملامح، وضوح العدو سينعكس على وضوح المقاوم، وسيمنح الصراع بعداً واقعياً يفتقر له، وهو ما فعله درويش. سيكون من السهل هزيمة شبح وتحميله وشحنه، ولكن سيكون صعباً وواقعياً مواجهة عدو حقيقي مادي يمتلك تناقضات ونزعات إنسانية بمعانيها المركبة، هنا تصبح المعرفة والثقافة هي البنية التحتية للنص بديلاً عن البلاغة السائدة التي تخفي عجزها وهزائمها وراء حيلة اللغة. ثمة إضافات كانت حاضرة في كل مراحل مشروع درويش، إضافات متكئة على معـرفة مختلفة وثقافة مختلفة. وهو ما لم يتوفر لمجايليه من الشعراء الفلسطينيين».
الشاعر والقضية.. أي تأثير؟
وفي علاقة الشاعر بالقضية، يستنتج الشاعر الفلسطيني لطفي خلف بأنّ «ما كتبه درويش شعراً في القضية والثورة، لم يكتبه من أجل أن ينال لقب شاعر الوطن والقضية، وينال أوسمة الثورة، ويصبح بالتالي رمزاً للثورة فحسب، إنما فجّر ثورة في الشعر فخلق للشعر روحاً وطعماً، وصلب المتلقي على خشبة الانتظار، ليشعر بلبن الكلام يسيل على شفة المتعطش منا للمطالعة، وتجعلنا نقف على رؤوس أصابع التفاؤل، كلما سمعنا خبرا عابرا عن نيته طرح قصيدة جديدة في صحيفة أو مجلة أو على شاشة إحدى الفضائيات. درويش الذي عجن صلصال شعره بماء النكبات الفلسطينية المتتالية، لم ترفعه القضية الفلسطينية وحدها إلى المستوى الكوني الذي وصل إليه، إنما النفق الذي حفره بعضلاته الإبداعية تحت رمال مفردات اللغة واقتحامه نار الفكر ودروبه الوعرة بسهولة ويسر وعن طيب خاطر، كونه موهوباً من الدرجة الأولى وعاشقاً للثقافة والكتاب والشعر، وجهده الخاص وثقافته العالية وفلسفته في الحياة والطبيعة وقضايا الإنسان، هو ما جعله يشعل ثورة حقيقية في الشعر، لم تخفت نيرانها ولم يهدأ أوارها حتى بعد غياب من أشعلها. لقد زاوج درويش بين مطلب القضية بتحرير الأرض والإنسان من قيود الاحتلال، وبين الهم الجمالي الذي يحمله بين سطور قصائده».
ويذهب الشاعر السوري أديب حسن إلى أن «القضية الفلسطينية أثرت على النصف الأول من تجربته، فحصرتها في حدود تعبيرية محددة، لم يتجلَّ خلالها الاختلاف عن أبناء جيله كسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم، فقد كانت سمة القصيدة الفلسطينية عامة في تلك الفترة هي الحماسة والمباشرة، ما ألغى الفروقات بين التجارب الشعرية، وجعلها تدور كلها في الفلك ذاته». غير أن الشاعر استطاع – في ما بعد- الخروج من المباشرة إلى الموضوعات الشعرية الكبيرة، ومن ثم التفاصيل الإنسانية الصغيرة، التي هي مثار اهتمام مشترك بين البشرية جمعاء، وطبعاً خفت النبرة الحماسية المعتادة لحساب صعود الفنية العالية للقصيدة التي استطاعت هذه المرة تقديم فلسطين بصورة غاية في الاختلاف، وقادرة على الصمود في السياق الجمالي».
ولا يجد الشاعر والناقد المغربي عبد السلام المساوي أن القضية الفلسطينية كانت «مؤثرة سلبياً على تجربته الإبداعية، بل على العكس من ذلك، فلولاها لما استمتعنا بأروع قصائده، كـ«مديح الظل العالي وأحمد الزعتر وريتا» وغيرها من الخالدات في عالم الشعر. والشعر الجميل لا يكتب بعيدا عن الامتلاء بالتجارب. ومحمود درويش لم يكن بوقاً مباشراً للقضية، بل كانت القضية حافزاً على الامتلاء بالشعر». وقال: «ظل محمود درويش طوال كفاح الشعب الفلسطيني الصوت الصافي الذي يصدح بأطوار هذا الكفاح، لا مردداً أو محاكياً لما يجري في الواقع الفلسطيني؛ بل خالقاً أو هاجساً بما ينبغي أن يكون عليه هذا الواقع. لقد أدرك ـ من هذه الناحية ـ ومنذ الوهلة الأولى أن وظيفة الشعر عنده تكمن في إعطاء فلسطين هويتها عن طريق مضاعفة الصور والمعاني التي تكثف حضورها، وكان مؤمناً بأن المتخيل يحمي ما يرغب التاريخ في تحطيمه».
الشاعر في الذاكرة والمستقبل
لا ينكر معظم الدارسين الدور الريادي الذي اضطلع به محمود درويش من أجل الشعر العربي في سيرورة تحديثه. ففي رأي أديب حسن، «كان لدرويش دور مركزي وصميمي في الارتقاء بسوية القصيدة العربية الحديثة. فإذا كانت مواضيع الشعر الرئيسة هي هي على امتداد تاريخ الشعر، فإن الأسلوب بلا شك هو الذي يحدث الفارق، وهذا ما فعلته تجربة محمود درويش في نصفها الثاني، بعد أن تجاوز أسلوب مجايليه المباشر محدود الدلالات والآفاق»، بل صار مؤثراً على الأجيال التي جاءت بعده، إذ «غالبية الشعراء اليوم يستحضرون درويش، خاصة شعراء التفعيلة، الذين لا تكاد تخلو تجربة من تجاربهم من أثر درويش، سواء في المناخات، أو العبارات، أو طرق الصياغة، الأمر الذي يظل في حدود معينة قابلاً للفهم». وقال لطفي خلف: «كان لدرويش أكبر الأثر في تحديث الشعر العربي، فقد استهل بداياته في أواخر ستينيات القرن الماضي بشعر التفعيلة، حيث تأثر بالسياب والبياتي وغيرهما من الشعراء العرب في مصر وسوريا والمغرب العربي» . غير أن للناقد المصري رضا عطية رأياً آخر، بقوله: «لا نستطيع أن نرى «درويش» في دور المحدِّث أو المجدد؛ لكننا نرى درويش قد أضاف لسابقيه في المضامير التي خاض فيها وراكم بإسهامه على تجارب أسلافه».
وفي نظره، فإن ما كان يعني محمود درويش هو أن يحدّث تجربته الشعرية من الداخل؛ حيث «مرت بتحوّلات دالة، نستطيع أن نكثفها في مراحل ثلاث على صعيدي المستوى الصوتي والموسيقي والمستوى الرؤيوي؛
ـ مرحلة الغنائية المفرطة، إذ كانت تتسم قصيدته بجهارة موسيقية وصخب إيقاعي على صعيد موسيقى الشعر مع انصباب جل اهتمامه في هذه المرحلة – موضوعاتيًّا- على القضية الفلسطينية بشكل كبير.
مرحلة إقامته في فرنسا من منتصف الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، تلك المرحلة التي زاوج فيها بين الهم الوطني والهم الإنساني من ناحية الموضوع الشعري، كما هدأت حدة الإيقاع وارتفاع الصوت الموسيقي.
أما المرحلة الأخيرة فهي تبدأ من منتصف التسعينيات حتى رحيله في 2008، والتي غلب على شعره فيها خفوت الجهارة الموسيقي والتخفف إلى حد كبير من القافية، في ما يعرف بـ«الشعر الأبيض» مع غلبة التأمل الفلسفي والتحديق في مرايا الوجود بالحث في الأسئلة الوجودية الكبرى، فكانت قصيدته أو بالأحرى مطولته الخالدة (الجدارية) التي تكشف عن نفس شعري طويل».
غير أن الشاعر بحكم منجزه الإبداعي ومقترحاته التي قدمها للشعر الإنساني، وصورته في التلقي الثقافي العام، فإنه يتجاوز زمنه باستمرار. «لقد اضطلعت قصيدة محمود درويش – بتعبير عبد السلام المساوي- بامتصاص كل مخزوناته الثقافية والجمالية من معيشه ومقروئه، وأعادت إفرازه في مستويات إبداعية متنوعة، ولكنها تضع هذه المستويات في خط فني متلاحق عرف الشاعر كيف يحبك تفاصيله. فمن لحظة شعرية إلى أخرى، ومن حركة إلى حركة يعرض علينا الشاعر شريط التاريخ الإنساني بكل حمولاته التاريخية والأسطورية والفنية في توليفة إبداعية لا يقوى على حذقها إلا شاعر موهوب من طرازه، توليفة تستنجد بغنائية خفيفة، وهي تعانق أفقاً حداثياً مع الإبقاء على تواصل خاص مع القارئ.
ومن هنا يكون محمود درويش هو الشاعر الذي يخترق كل الأزمنة ليحسن نحت زمنه الخاص أو ليعرف كيف يضع ذاته أمام التجارب الجمالية الخالدة».
بعد تسع سنوات، تأثر الشعر العربي بغياب محمود درويش؛ ففي نظر لطفي خلف «كان مدرسة شعرية نمطية في نقل هموم شعبه للعالم بلغات قصائده الساخنة المترجمة، سواء كانت من خلال ديوان منشور أو نقاش أدبي أو أمسية شعرية في كل البلدان التي كان يتنقل إليها دائماً، بل كان لغيابه الأثر الكبير في نفسيات ومعنويات شعراء فلسطين والعالم العربي بأسره». كما كان – في نظر أديب حسن- شاعراً مُسوّقاً له، وهذه نقطة مهمة جداً يجب عدم إغفالها، إذ أنه مع كل ديوان جديد له، كان يرافقه الكثير من الجدل، والمواكبة النقدية، إضافة إلى تجاوزه المستمر لمنجزه الشعري مع كل إصدار جديد، ما جعله بؤرة نشاط وجدل مع كل إطلالة شعرية جديدة له». وقال عبد السلام المساوي: «نحن نستحضر ذكراه الخالدة فإننا نستشعر فراغاً كبيراً خلفه فقيدنا العزيز.. فراغاً انعكس على نكهة الشعر، وعلى الحدث الثقافي الذي كانت يخلقه صدور دواوينه، وكانت تخلقه أيضاً مقالاته وأفكاره، وفراغاً زلزل القصيدة العربية المعاصرة حين فقدت بوصلتها التي كان يلوح بها الشاعر محمود درويش».
* * *
محمود درويش.. لماذا تركت الحصان وحيداً
محمد ملص:
قـوس الألـوان
فراق مستبد يبعثر الصور والكلمات، ولا يترك لي لغة تليق برحيلك يا محمود أو بغياباتك المترامية.
كم مضى من العمر وأنت تلون فضاءاتنا فيحملنا كلامك وقصيدك، ومذكراتك ورسائلك وصورتك وصوتك، من ما كانت عليه أيامنا إلى ما آلت إليه؟
هل بدأ هذا من ذاك اليوم الذي هرعت فيه نحو تلك الصبية فأخرجت لي ديوانك لتعلمني «العشق»؟!
يومها انتبهت إلى معالم عمري.
أم بدأ هذا يوم كان «في الشام مرآة» لروحك، فصرخت امرأة أخرى وهي تريني قعر فنجان قهوتي، وقد رسمت بقايا البن صورة فلسطين!
عندها تساءلت كم صار عمري؟!
أم بدأ في موسكو يوم هربوا لنا من فلسطين مجلة نسيت اليوم اسمها، ربما كانت «الجديد»، وقرأنا اسمك وكلماتك، فالتمع الضوء فوق نيران الصبا في داخلنا، وتوهجنا للقاءنا بك من تلك الأرض وعنها ولها ومن أجلها... أيامها بدت لنا موسكو أكثر بهاء وأقل عبوساً واشتهينا أن نرمي القصائد بين أيدي من يمنحنا قبلة أو طعاماً أو رسالة... وازددت تمسكا بالسينما التي أحلم بها...
نحن الذين يا شاعرنا قد اعتادوا العيش في هذه الحياة لأنك أنت فيها... وعبرناها وأنت ترسم صورنا وتاريخنا ويومياتنا، وفي كل هذا كنت في الهواء وفي تلك الصور... كنت قوس الألوان الذي يشد الأشرعة نحو محرق الحكايا.
يأتي الصباح أو المساء أو المنام وأنت كامن في زمننا.
قد نغيب أو نغرق في أوزار الدروب، لكن رسالة تحط بيننا وهي في طريقها لصديقك سميح القاسم، نحرك إبرة الراديو فيتناهى إلينا مرسيل خليفة يحن لقهوة الأمهات، نخرج ويوسف شاهين من عتمة صالة الرقابة السينمائية بعد «العصفور» إلى الشوارع، فتفاجئنا بخوائها، فقد هرع الجميع إلى الملعب الكبير تشخص أرواحهم إليك لتخرجهم من حصار ومن سفر ومن رحيل إلى صورة فلسطين وحكاياتها.
بالحب وبالسينما وببحة صوتك كنا نقيس أعمارنا ونتساءل كم بقي لنا من الهزائم.
فهل حقاً تجرأت وطلبت أن يزيلوا عنك أجهزة الإنعاش!
ونحن؟!
متى نجرؤ فنطلب إزالة أجهزة الإنعاش التي نعيش عليها؟! ألم تحدث آلاف الأخطاء في القصيدة بعد؟!
لا يخرج الصوت من كلماته في هذا النهار فقد فارقتنا، وتركت لنا أصوات الرصاص في كل مكان، فنحن كما قلت «لولا السراب لما صمدنا» ومازالت غرفنا وزنزاناتنا في أقبية قصور السلاطين والملوك والأمراء والرؤساء... توجعنا هذه الحياة : «يا يوسف...!؟» ولا أحد منا يقوى على إزالة أجهزة الانعاش من أجسادنا.
* * *
نبذة عن الراحل الكبير
مولده:
ولد الشاعر محمود درويش بتاريخ 13 مارس 1941 في قرية البروة وهي قرية فلسطينية تقع في الجليل قرب ساحل عكا، حيث كانت أسرته تملك أرضًا هناك. خرجت الأسرة أثر الغزو الصهيوني لفلسطين برفقة اللاجئين الفلسطينيين في العام 1948 إلى لبنان، ثم عادت متسللة عام 1949 بعد توقيع اتفاقيات الهدنة، لتجد القرية مهدمة وقد أقيم على أراضيها موشاف (قرية زراعية صهيونية) "أحيهود"، وكيبوتس يسعور فعاش مع عائلته في قرية الجديدة.
شعره:
قسّم النقاد مراحل شعر درويش الشعرية إلى عدة أقسام يجمع بينها علاقة الشاعر بوطنه وبقضيته "القضية الفلسطينية" وبالمنفى وترك الديار وكل ذلك في ظل علاقته بالذات. وقد قسّم الناقد محمد فكري الجزار شعر درويش إلى ثلاثة أقسام: المرحلة الأولى وهي مرحلة تواجده في الوطن، التي تشمل بدايات تكوين الشاعر وعيه بقضية وطنه وتشكيل الانتماء لهذا الوطن في ظل الاحتلال.
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الوعي الثوري والتي امتدت إلى عام 1982 حيث الخروج من بيروت وفيها تم تنظيم مشاعر الشاعر الجمعية التي كانت قد تكونت لديه في المرحلة الأولى. أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الوعي الممكن والحلم الإنساني. بينما قسّم الناقد حسين حمزة شعر درويش إلى ثلاث مراحل انطلاقاً من علاقة الشاعر بنصه الشعر ي فنياً، وبخارج نصه أيديولوجيا، أي كيف انتقل درويش من ماركسية في المرحلة الأولى إلى قومية عربية في المرحلة الثانية، وإلى الفكر الكوني الإنساني في المرحلة الثالثة دون إغفال فلسطينيته.
أما من حيث مسيرته الشعرية فيمكن تقسيمها وفق ما جاء عند الناقد حسين حمزة إلى ثلاث مراحل هي الأخرى: فالمرحلة الأولى (190-1970) ويسميها حسين حمزة بمرحلة "الاتصال"، حيث انتمى الشاعر وفق حسين حمزة في هذه المرحلة إلى التيار الرومانسي في الشعر العربي المعاصر وقد احتذى بشعراء أمثال بدر شاكر السياب (1926-1964) ونزار قباني (1932-1998) وهنا نلاحظ سيطرة الخطاب المباشر على نصه الشعري مع استخدام الشاعر لتقنيات أسلوبية مثل تناص والقناع وغيرها . أما المرحلة الثانية (197-1983) وهي مرحلة أطلق عليها حسين حمزة بمرحلة "الانتصال" وهي مرحلة بينية تكمن فيها بعض مميزات المرحلة الأولى وقد طور الشاعر في هذه المرحلة أسلوبه وتطورت دلالات شعره منفتحة على دلالات أوسع من تلك الحاضرة في البعد الأيدولوجي، كما اكتسبت إحالات الشاعر إلى التاريخ والدين والأسطورة والأدب والحضارة زخماً أكبر، حيث أصبح نصه الشعر مليئاً بالإشارات الأسلوبية والتناصية.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة (1983-2008) فقد أسماها الناقد حسين حمزة بمرحلة "الانفصال"، بمعنى أن الشاعر انفصل تدريجياً وبشكل واعٍ عن خطابه الأيدولوجي المباشر في شعره، وقد يكون الخروج من بيروت عام 1982 سبباً في خيبة أمل الشاعر في قومية عربية التي آمن بها الشاعر وتجلت بالمرحلة الثانية. في هذه المرحلة انفصل الشاعر عن الضمير "نحن" وعاد إلى الضمير "أنا" أي الالتفات إلى الذاتية.
وفاته:
توفي في الولايات المتحدة الأمريكية يوم السبت 9 أغسطس 2008 بعد إجراءه لعملية القلب المفتوح في مركز تكساس الطبي في هيوستن، تكساس، التي دخل بعدها في غيبوبة أدت إلى وفاته.
(المصدر: القدس العربي + الحياة + وكالات)