إذا كانت طريقة التعبيرعن علاقة الشعر بالواقع تمر عبر التأمل، فإن البحث بالتالي عن تحولات البطل يستدعي تحولاً في اللغة، و التخفيف من النطق باسم الجماعة الى التكلم باسم الذات الحاملة للجماعة،
وهذايقتضي طبعاً قصيدة متقشفة، تمجد إنسانية الإنسان التي لا تختزل بقدرته على التضحية وتمجد حبه للحياة، وليس حبه للموت، تمجد الإنسانية فيه، وهذا جزء لا يتجزأ من مشروع بحث الفلسطيني عن إنسانيته..».
وتشكل هذه الرؤية لمحمود درويش بعداً أساسياً من أبعاد كتابته الشعرية الجديدة بعد الـ «جدارية» في محاولة طامحة للانفلات من ربق التصورات المنجزة للتجربة الشعرية، والانتقال المغاير نحو تناولات جديدة، تبحث في موجودات الداخل ومنمنماته الذاتية بعد الاحتفاء الطويل بالبطولة والرثاء، وتمجيد الجماعة، وعظمتها، وانبعاثها المتواصل.. باستغراق قلما يتغير بشمولية القول، واحتشاد المعطى السياسي اليومي ضمن بلاغته الجديدة، وتبدو المجموعة، الجديدة «كزهر اللوز أو أبعد» استكمالاً لخط مغاير أرّخ ليوميات الحصار، ولم يعتذر عن حبه للحياة، وها هو ينتشي بالتفاصيل عبر تأملات عميقة لماهية الأنا وانشغالاتها مع ذاتها وعالمها، وكما نعلم بأن حقل التفاصيل يتسع للسرد والشروحات والمشهدية والاستطراد في الكلام أحياناً، عكس ما يقتضيه الشعر من تكثيف واختزال وتخييل وكشف وتواتر.. لذلك تكون الصعوبة على أشدها لاحتواء ما يفرضه النثر في استطاعة الشعر وإيقاعيته، وهذا يتطلب دربة طويلة في الكتابة، وتملكاً خاصاً لأدوات التشكيل الشعري.. من هنا تدخل المحاولة أقصى حدود المغايرة والتجريب، وتصبح تقدمة «أحسن الكلام» ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم، لأبي حيان التوحيدي مدخلاً حقيقياً لقراءة التشكيل الشعري ومفرداته المختلفة، ففي النص الشعري الأول المقدم بـ «أنت» وتحت عنوان «فكّر بغيرك» نقرأ: «.. وأنت تعد فطورك فكر بغيرك/ لا تنسَ قوت الحمام/ وأنت تخوض حروبك، فكّرْ بغيرك/ لا تنسَ من يطلبون السلام.../ (ص15).
وربما تحد هذه الصيغ التعليمية ـ رغم لمستها الإنسانية ـ الكلام من الذهاب بأبعد مما فيه، ولا تبتعد بتشكيلها عن مديات الفكرة المحددة سلفاً للقول، وحدود فسحته المعطاة في انزياح المألوفات، فاللغة الشعرية هنا لغة إيضاح وليست لغة استبدال، لكن ما يميزها هو محاولة إحاطة ما يستلزمه النثر ومعطياته بإيقاعية الشعر واستطاعته ـ إن صح التعبير ـ وقد يختلف الأمر في النص الثاني ـ الآن في المنفى ـ عن الأول؛ باختلاف الحالة المتناولة لشاعر في الستين من العمر آنذاك، ويبدو السرد بانضباطه في المشي صعب الإتيان لساحة الرقص العروضي، فالمتابعة التفصيلية التي يفرضها وقع النثر، وتجوال مشهديته، تأخذ الشاعر رغم «عروضه» إلى منطقة لغوية خارج تواتر الشعر وجنونه وحساسيته في حوار المضمرات وانكشاف الحواس على موجوداتها، إذ كيف يندغم المشي والرقص معاً: «...الآن في المنفى. نعم في البيت/ في الستين من عمر سريع/ يوقدون الشمع لك/ فافرح بأقصى ما استطعت من الهدوء/ لأن موتاً طائشاً/ ضل الطريق إليك/ من فرط الزحام وأجّلكْ..» ص(17)، ونلاحظ أن التقشف الجمالي للغة الشعرية، والبناء من لحظة خارجية لفكرة مسبقة يقود الشاعر إلى تشكيل يغويه المنجز في التجربة، فيعيده بخفوت في الإضاءات الداخلية للصور المفردة والمركبة، مقارنة مع قصائد سابقة، ومختلفة في الرؤية والرؤيا معاً، ولا تنجح المحاولة حتى في توظيف الألوان واستخدامها كبعد أساسٍ لتفتحات المعنى وغائية دلالته المقترحة: «.. حين تطيل التأمل في وردة/ جرحت حائطاً، وتقول لنفسك/ لي أمل في الشفاء من الرمل/ يخضرّ قلبك/ حين ترافق أنثى إلى السيرك/ ذات نهار جميل كأيقونة../ وتحل ضيفاً على رقصة الخيل يحمر قلبك» (ص21).
فالكتابة الشعرية في أبوابها المقترحة داخل المجموعة عموماً، وتقسيمات الشاعر لها «هو.. أنت.. أنا.. هم.. ا لخ» تنبني على اللحظة الخارجية للمفهوم ودلالته المباشرة، مستعينة بمجاز عين العقل لا بتوسعات الداخل وتوقده واتساع فيضانه: «.. لم ينتظر أحداً، ولم يشعر بنقصٍ في مشاعره/ فمازال الخريف مضيفه الملكي/ يغريه بموسيقا تعيد إليه عصر النهضة الذهبي/ والشعر المقفى بالكواكب والمدى...» (ص33).
ومن «أنا» القسم الثالث وعنوان «هاهي الكلمات» نقتطف: «.. لا يفرح الشعراء كثيراً/ وإن فرحوا لن يصدقهم أحد/ قلت مازلت حياً لأني أري الكلمات/ ترفرف في البال/ في البال أغنية تتأرجح بين الحضور/ وبين الغياب...» (ص 45).
فالجديد يتجلى كما نلاحظ في التفات الشاعر إلى التفاصيل، والتخفف من شمولية القول، وعمومية الحالة، ودخول مغامرة كتابة قصيدة ربما «يومية» بإيقاع عروضي، قصيدة تنشغل بلحظة هاربة أو فكرة أو قطفة أو زاوية من سيرة ما لتأريخها جمالياً: «.. هناك، على باب هاوية كهربائية/ بعلو السماء، التقيت بإدوارد قبل ثلاثين عاماً/ وكان الزمان أقل جموحاً من الآن/ قال كلانا/ إذا كان ماضيك تجربة/ فاجعل الغد معنى ورؤيا» (ص179).
ويمكننا القول عموماً: إن الشاعر في مجموعته الجديدة يقتحم أرضاً يخشى شعراء التفعيلة اقتحامها لصعوبة الحراثة الإيقاعية فيها، ووصول ينابيعها، إن صح القول، فليس من السهولة ـ كما أرى ـ الجمع بين سردية النثر وإيقاعية الشعر بعين البصر والبصيرة معاً.
الكتاب: كزهر اللوز أو أبعد
المؤلف: محمود درويش
الناشر: دار الريس ـ بيروت ـ 2005