العرب متى سيرون أن أميركا تريد استعمار عقولهم بكلمات كـ”الديمقراطية” لتجعلهم يعتقدون أن الخلاص من عندهم، وليس البلاء من هناك؟
نظرت لشعدون قائلة: أتدري؟ أجاب: ماذا؟ قلت: نحن بالفعل شعوب لا تقرأ، وإن قرأت لا تستوعب، نظر إليّ مستغربا، وكأنه يقول لي أدري، وما العجب في ذلك! تجاهلت نظرته مكمّلة قولي:
انظر لهذا الكتاب الذي كتبت فيه السياسة الأميركية بالنسبة للشرق الأوسط، منذ زمن بعيد، منذ بداياتنا ومغادرة الدول الاستعمارية بلداننا، لكننا - وهنا أقصد الشعوب لا الحكومات- لا أدري لم لا نرى هذا؟ أم أننا كثيرو النسيان! فكوبلاند في لعبة الأمم -الكتاب معرض حديثنا- قالها صراحة: “إن الأمر الذي كنا نحاول أن ننجزه، هو ملء الفراغ الذي تركه رحيل بريطانيا من الشرق الأوسط برمته، وأن نقوم بهذا بأسلوب يتماشى مع وسائلنا وأسلوبنا في الأداء”، أي أنه أسلوب مختلف عن الاستعمار المباشر.
أيّدني: ولقد قال كوبلاند أيضا صراحة: “كنا مثاليين علنا أما سرا فكنا مكيافيليين”، وسيظلون كذلك إلى يوم الدين، فهم يروجون وبمثالية للديمقراطية، قصد ضرب الأضداد بعضها ببعض، ووفقا لكتابة التاريخ طبعا، فإن “الديمقراطية” و”الانتخابات” و”الصناديق” استخدمت في فوضى الخمسينات أيضا، وقول وزير الخارجية الأميركية -عن سوريا- حينها يشبه قوله اليوم، منذ احتلال العراق حتى الربيع العربي: “نحن نعتقد بأن هذه الانتخابات سوف تكون بمثابة انتخابات نموذجية لجميع البلاد التي تحررت حديثا، ولذا أجد نفسي متأكدا من أنه لن يزعجكم مراقبتنا لها”. فزفرت بحسرة: إذن ما الذي يمكن أن يقال أكثر من هذا حتى يتيقن المعتقدون أن الغرب يريد مصلحتهم؟ متى سيرون أن أميركا تريد استعمار عقولهم بكلمات كـ”الديمقراطية” لتجعلهم يعتقدون أن الخلاص من عندهم، وليس البلاء من هناك؟
أيدني: المشكلة أن الأميركان متأكدون أن مرشحي “حقبة الخمسينات” هم مجرّد لصوص حسب تعبير الكاتب نفسه: “بدا أن اللصوص الذين يستبقون السياسيين غير ممثلين في الحكم”، ويعترف أن عملية الانتخابات هي إحدى أسلحتهم.
وأضاف: لاحظي أنه في نفس هذا السياق اعترافه أيضا بأن الصحفيين الأجانب مجرّد عملاء، وصنفهم ضمن النماذج المختلفة من العملاء السريين!
قلت: ومن ثمّ ينادون بحرية الصحافة، ويتشدّقون بحرمان صحفييهم من الدخول إلى بعض الدول العربية؟!
داهمني: إذن الدور الأميركي في تتويج وتقويض حكومات الشرق الأوسط قديم منذ الخمسينات، ووفقا لهذا الكتاب فإنها بدأت حتى قبل إنشاء وكالات الاستخبارات المركزية، بفريق عمل يتكون من الدبلوماسيين الذين كانوا يعملون في الخفاء، من وزارة الخارجية ووزارة الدفاع، ومن المكاتب المؤقتة التي كان بعضها موجودا منذ الحرب العالمية الثانية، وما بعدها.
أضفت له: لا تنس ما كتبه في البداية: إن وزارة الخارجية لا تصنع السياسة الأميركية ولا يمكن أن تصفها بمفردها، لأن هناك مراكز قوى في البيت الأبيض وفي مكتب المخابرات الأميركية، وفي البنتاغون والقيادة العسكرية، وفي الكنغرس الأميركي، بالإضافة طبعا إلى الصحافة الأميركية، أو ما يعرف باسم الرأي العام الأميركي، فمن كل مراكز القوى هذه تتألف القيادة الجماعية، وهي ما يعرف باسم المجلس القومي للأمن الأميركي، ومنه وحده يصدر القرار في صلب المشاكل والمواقف والعمليات الأميركية، لا من وزارة الخارجية أو سفاراتها، فهي مكاتب تنفيذية محدودة جدا إلا في الأعمال الثانوية، وفقا لكوبلاند.
صمت فأكملت: إذن ألا يحق لدول العالم الثالث أن يكون لها مجالس للأمن القومي تحمي بها أراضيها ومواطنيها ومواردها من أميركا والغرب عامة؟!
تنفس موافقا، وقال: الكاتب يعترف بأن أميركا كانت في صراع دائم مع البلاد العربية، وهذا مرجعه للزعامة الضارة وذات التوجيه الخاطئ.
سألته: وما التوجه الخاطئ بنظرك؟ فعلى حدّ علمي كان الزعماء العرب حينها طموحين ومثاليين، لم تلعب السلطة والمال برؤؤسهم بعد؟
أجاب: أظن أن توجهاتهم الخاطئة بالنسبة لأميركا في الخمسينات، تكمن في توحد كلمتهم نحو تحرير فلسطين، التي لم تعد مشكلة العرب اليوم بالشكل الجاد كما كانت حينها! بالإضافة إلى أن أميركا لم تكن تودّ للعرب الاستثمار مع غيرها، ولا أظن أنهم كانوا مخيرين في الشراكات السياسية، ولا حتى في العروض الخاصة بالدفاع، فحتى بعد انتهاء عقود النفط مع الشركات الغربية تم الضغط عليهم لتمديدها.
علقت: لذلك تراكض العرب اليوم للروس بعد خيانات الغرب السافرة لحلفائهم، ومن عدم استفادة العرب - حتى اليوم على الأقل- من التسويات السلمية في المسألة الفلسطينية، فها هي محادثات السلام تتهلهل كجلد عجوز.
كتب “شعدون” في خاتمة مقالي، المغزى الأميركي من وراء هذا التدخل السافر في شؤون الشرق الأوسط، كما جاء في كتاب لعبة الأمم، يعود للأسباب التالية:
أولا: منع أوجه الصراع الإقليمية والتي تتضمن الأميركان مع السوفيات، وتحويل الحرب الباردة إلى حرب ساخنة.
ثانيا: تمكين الحكومات في المنطقة لتصبح قوية سياسيا وعسكريا بصورة كافية، والمشاركة بصورة فعالة في المجهودات العالمية للحد من الشيوعية الدولية. نظر إلي هنا قائلا: أي أنهم هم من قووا الجيوش في تلك الحقبة، وهم أيضا من قوّضها منذ بداية القرن الحادي والعشرين، من أفغانستان إلى ليبيا مرورا بالعراق وسوريا.
ثالثا: أن نؤثر في الأحوال البيئية مؤيدين بذلك الاستثمار التجاري الأميركي. وهنا قلت أنا: الترويج لم يكن للتجارة فقط، ففي تسعينات القرن العشرين طفحت المؤسسات الخليجية بـ”النطيحة” والمتردية منهم، لكن الحمد لله أن دولنا تنبهت لهذا في الوقت المناسب.