عمة الشهيد: باسل "وجد الجواب" باسل الأعرج، المثقف الثوري الذي صعد في معراج الشهادة من "سدة المؤن" خلال اشتباك مع جنود الاحتلال الصهيوني، ليرتقي "سدة المجد"، شهيداً كتب وصيته بدمه، مؤكداً فيها "وجدتُ الأجوبة".
باسل الذي عاد إلى فلسطين بعدما درس الصيدلة في مصر، وجد طريقه إلى التحرير، فكان مثال المثقف العضوي، الذي يضيء بوعيه كل موقع يتواجد فيه. المثقف الذي لم يفصل يوما الفكر عن الممارسة.فكان كما عنوان مدونته العميقة " عش نيصاً وقاتل كالبرغوث الرديفة للموت نداً .
باسل الباسل، كتب بدمه درس البسالة للأجيال القادمة، وكان وعيه الوطني الثوري يتبلور في ثرى الوطن من خلال تنظيم جولات تثقيفية عن تاريخ فلسطين وموروثها الشعبي والمقاوم. وكان التجسيد الحي المكثف لمقولة الشهيد فتحي الشقاقي "المثقف أول من يقاوم، وآخر من ينكسر.
باسل الأعرج الذي وصفه العدو الصهيوني بأنه الجناح العسكري للحراك الشعبي الشبابي الفلسطيني، الحاسم لدور المثقف وموقعه الذي ارتقى برسالته إلى مرتبة إستحقها مع حالة الزخم الثوري التي وحدت أحرار العالم حوله بأكثف عبارة يمكن أن تُقال "باسل الأرقى من شهيد" دليل الطريق بلا شوائب، كما قالت عنه والدته سهام شحادة أم السعيد.
باسل الطفل اللاجئ الذي نشأ في قرية الولجة قضاء بيت لحم، العاشق للإنصات لروايات الأجداد، الأديب، الحنون، المثقف، الموثق، الباحث عن المعرفة ، الراوي، المقاوم، المعتقل في بئر الخيانة ، المُطارد ، المشتبك منذ الطفولة مع واقع وجود مستوطنة للصهاينة قبالة نافذة داره.
باسل الذي تعرفه كل ذرة تراب في الوطن، والذي قال عنه صديقه عصمت قزمار "إنه المستعد للعطاء حتى آخر نفس، فهو قوي وعنيد". فما فعله باسل هو جواب لا سؤال، أراد أن يوصل للجميع رسالة عميقة ، مفادها "أنا واحد من أبناء هذا الشعب المقاوم، فالأبطال هم بشر حقيقيون، لا تبحثوا عن شيء مميز هنا، إبحثوا فقط عن الفكرة والنهج المطلوب دون إنجرار لأحد".
وسيكون باسل بكل التفاصيل التي تركها في موقع الإشتباك مع العدو، في التعبير الحقيقي عن دور المثقف الثائر، وعن ما قاله فرانز فانون الذي فتن باسل بتجربته "نحن لا نُريد أن نلتحق بركب أحد. ما نُريده هو أن نتجه للأمام طوال الوقت، ليلًا ونهارًا، برفَقة الإنسان، بِرفقَة كلّ البشر. ويجب أن تكون القافلة متراصّة ولا تتشتّت"
في حوار خاص مع شيرين الأعرج عمة الشهيد باسل، وهي الأكثر قرباً منه، إذ أسهمت بصقل شخصيته في المراحل الأولى من حياته، تتحدث عن علاقتها بباسل وعن طفولته، وعن وعيه الثوري وشخصيته وشبكة علاقاته وحضوره وشغفه بالقراءة والتراث الشعبي الفلسطيني.
كما تتحدث شيرين عن آخر لقاء مع باسل، وآخر اتصال هاتفي بينهما، وعن حلم باسل بتحرير فلسطين من النهر إلى النهر.
عن طفولة الشهيد، قالت عمته "كان هادئاً، ارتدى النظارات الطبية أثناء مرحلة الروضة، والمفارقة أن نظارات باسل أصبحت نقطة ضعف من وجهة نظره، حيث كان الإحتلال يعاقبه بأخذها منه، أو كسرها". وذكرت ما قاله لها مرة "عندما أستشهد، إدفنوا نظارتي معي". وأضافت "لم أكن طبعا وقتها أعرف أنه يخطط للشهادة، لكنه كان يعرف طريقه، خصوصاً حين كتب في وصيته (وجدت أجوبتي)".
وتؤكد شيرين ان باسل كان منذ طفولته عاشقاً للقراءة، وباحثاً عن المعرفة، يتعلم من أجل التغيير الفعلي. حتى أنه بعد دراسته الصيدلة في مصر، نظم ورش عمل عن الزراعة وإعادة التدوير، ليعزز قدرة النساء الفلسطينيات في الانتاج.
وتشير إلى أن باسل كان مثقفاً، أثرت فيه كتابات فرانز فانون منظر الثورة الجزائرية الذي شكلت قراءاته إنقلابا في حياة باسل وتماهت أفكاره مع رؤية المفكر فانون بأن مقاومة الاستعمار تتم باستعمال العنف فقط من جهة المقموع، فما أخذ بالقوة يستعاد بالقوة.وكان يرى أن المقاوم ليس مضطراً ليبرر مقاومة الإحتلال، فهو من يحدد موقفه.
وتوضح أن تجربة باسل تعززت من خلال ربط ثقافته بالواقع، والتعامل مع الأسرى والمشاركة في التظاهرات والمواجهات المباشرة مع العدو الصهيوني وحملات الإضراب عن الطعام وكتابة المقالات و تنظيم الحملات التثقيفية الجوالة على إمتداد فلسطين للتعريف بالموروث المقاوم والشعبي والإجتماعي والثقافي.
ملحمة بطولية
حول حالة الزخم الثورية التي ولدت يوم إستشهاد باسل في الملحمة البطولية التي لن تُمحى، قالت شيرين إن "باسل فرض بإستشهاده حالة مختلفة ترتبط بوعيه الوطني والفكري والسياسي والثوري الذي كان نتاج ثقافة وممارسة على أرض الواقع". وتذكر أن باسل كان دائماً يؤكد أن "المثقف الحقيقي، هو المشتبك بقضية شعبه، فكراً وممارسة". وكان يرى تكامل الأشكال النضالية، مشدداً على ما طرحه فرانز فانون عن متطلبات كل مرحلة نضالية. وكان يركز على الفعل النضالي، بتعدد أشكاله، وأن لكل فلسطيني وفلسطينية دوراً مشتركاً في مسيرة التحرر من الاحتلال.وكلمة السر في الإجابة على السؤال هي " الصدق في عشق فلسطين "
وعن الرحلات التثقيفية التي كان يقوم بها الشهيد باسل الأعرج من خلال تجواله في الأرض المحتلة وقيامه بدور الرواي لتاريخ فلسطين وحياة الفلسطيني وموروثه الشعبي صعودا إلى العمليات العسكرية النوعية، تقول عمّته شيرين الأعرج "كانت البداية من خلال نشاطه على موقع التواصل الإجتماعي، وعندما قرر مجموعة من الشباب من ضمنهم باسل خوض تجربة الإضراب عن الطعام إحتجاجاً على الإنقسام الفلسطيني، بدأ كثير من الشباب يتابعون كتاباته على موقع (فيس بوك) ويلتفون حوله، إذ أصبح لديه شبكة من العلاقات على إمتداد الوطن العربي". وتوضح أنه كان يحب التواصل المباشر أيضاً، "فقد زار لبنان ليتواصل مع شباب المخيمات الفلسطينية، خصوصاً أن لبيروت أثر خاص لدى المناضلين الفلسطينيين".
وتضيف شيرين "مبتسمة" أن "باسل زار لبنان عاشقاً، وعاد ولهاناً بكل تفاصيل المدينة وأهلها". وتروي أنه كان حريصا على زيارة المخيمات والإطلاع على أوضاعها واللقاء مع الشباب من كل الأحزاب في مقهى "تاء مربوطة"، إذ كان يؤكد أن "من يؤمن بشعار فلسطين من نهرها إلى بحرها، يجب أن يكون عنده شبكة علاقات من المحيط إلى الخليج". وتؤكد عمة الشهيد أنه كان ضد كل أشكال الطائفية والعنصرية والتفرقة، إذ يؤمن بوحدة الوطن العربي، ووحدة المصير المشترك.وفحوى تحيته للعروبة والوطن والتحرير في وصيته تجسد إيمانه بوضوح جديد وهي الجواب الذي لم يبخل علينا به باسل لمن يفهم عمق تحيته.
الشغف بالموروث الشعبي
عن إهتمام الشهيد باسل الاعرج بالموروث الشعبي الفلسطيني، تقول شيرين إن باسل عاش عند والدها (جده) ثلاث سنوات في مخيم شعفاط، وبدأ شغف باسل بالموروث الشعبي من خلال حكايا جده أكثر الرواة شهرة في المخيم. وكان باسل يحّل تلك الحكايات الشعبية إلى مقالات وقصص ينقلها للشباب.
وتضيف أن "باسل بدأ لاحقاً بقراءة متعمقة لمدلولات الموروث المقاوم والشعبي، فحكى عن الأمثال الشعبية وأصل الأغنيات الشعبية"، مشيرة إلى أنه اتبع اسلوب السرد القصصي في كتاباته عن العمليات الفدائية.
وحول سمات باسل الإنسانية، توضح شيرين أنه كان مرحاً، وشديد الحساسية ومعتز بكرامته، ( حامل كرامتو فوق مناخيرو ) وفي الحوارات تزداد حركات يديه، كطريقة في التعبير.لكنه لم يرفع صوته يوماً ويمقت الجدل العقيم ويرى أن قراءة كتاب أكثر جدوى من حوار لا فائدة تُرجى من إطالته..
اللقاء الأخير
كان اللقاء الأخير الذي جمع بين شيرين وابن أخيها، باسل، في مدينة رام الله، في الحادي عشر من شهر شباط/ فبراير 2016. وتقول شيرين عن ذلك اللقاء إن باسل قال لها "ربما، هذه المرة الأخيرة التي تشاهديني فيها"، مشيرة إلى أنه طلب التقاط صورة لهما، لكن تواصل النقاش كما عادتهما دوما في كل لقاء أنساهما ذلك.
وتضيف "أما آخر اتصال هاتفي من باسل، كان في الثلاثين من آذار/ مارس 2016، أي قبل إختفائه بعشرة أيام، حيث قال لي في الإتصال أنه سيغلق حسابه على (فيس بوك)، وعندما يجد طريقة للتواصل معي سيكلمني". وتوضح أنه كان عادة يغلق حسابه بين فترة وأخرى، ليتفرغ للقراءة، قراءة، إذ أنه "أتم قراءة 3000 كتاب، حتى الخامسة والعشرين من عمره، في كل المجالات من التاريخ والسياسة والإجتماع والفكر والعسكرية التي ركز عليها في الفترة الأخيرة".
تقول عمة الشهيد أن باسل بعد انتقاله من الولجة إلى رام الله، حيث ترك العمل الصيدلاني، ليعمل باحثاً في المتحف الوطني، كان من أسعد مراحل حياته، إذ اصبح حراً في قراراته بعيدأً عن الضغوطات الإجتماعية التقليدية المعروفة بخصوص الزواج تحديداً. لكنه في رام الله عاش مع أصدقاء يحبهم، ويعمل في مجال شغوف به.
وحول يوم إستشهاد باسل، تقول شيرين "لم أتفاجئ باستشهاده، فهو كان في طريق الشهادة دائماً". وتشير إلى أن ضرب والد الشهيد في المظاهرات الاحتجاجية، كان انتهاكاً لحرمة الشهادة، منددة بدور السلطة وأجهزتها والشراكة الأمنية ، لكن شيرين تؤكد أن "باسل أعطانا الجواب في الفعل المقاوم الأرقى تحدياً للإحتلال ورداً على المنظومة الأمنية أداة الإحتلال الحارسة الأمينة لكل إملاءاته حين قاوم مجموعة من جنود الاحتلال الاسرائيلي، وحده من سدة المؤن". وتضيف "باسل قدم لنا درساً في ثقافة الاشتباك، فلا استقرار مع الإحتلال، ولا حل، إلا بالمقاومة وهي الجدوى المستمرة، وفق تعبير الشهيد باسل".
وتبين شيرين أن باسل كان يؤمن بأن لكل مرحلة متطلباتها، وأن العمل الفردي يتصدر المرحلة الحالية، في ظل المطاردة الأمنية. وكان يقول "نحن نعيش مرحلة المد الأفقي بضرورة غياب الهيكيلية والرأس المدبر، لحماية الفعل الثوري من أي اختراق، إذ لكل مرحلة هندستها الخاصة". وتقول شيرين "لذلك كان باسل شديد التقدير لعمليات الطعن بالسكاكين والدهس. وكان مبهوراً بما قام به الشهيدان غسان وعدي أبو جمل والشهيد بهاء عليان والشهيد مصباح أبو صبيح".
وصية الشهيد
تقول شيرين إن الشهيد باسل الأعرج قدّم جواباً واضحاً بفعله الاستشهادي، وكتب عبارة "وجدت أجوبتي" في وصيته التي بدأها ب"تحية العروبة والوطن والتحرير". وتوضح أنه كان يطلع على وصايا الشهداء، ويوثّق عمليات الإنتفاضة الثالثة وأسماء الشهداء. وتتابع شيرين "لم أرَ الشهيد باسل مهزوماً ولا منكسراً في أي يوم. وخلال السنوات الأخيرة بدا قراره ناضجاً، ووجد أن الطريق إلى تحرير فلسطين لن يكون إلا بالكفاح المسلح". وتشير إلى أن موقفه يترابط مع موقفه من كل حزب مقاوم، حيث كان يقدر دور حزب الله المقاوم بناء على وجهة نظر ورؤية تنطلق من أن المحدد الرئيسي هو موقف أي حزب من القضية الفلسطينية والعدو الصهيوني. وكان الشهيد باسل يرى في غزة نموذج صمود شعبي، بغض النظر عما حدث بعد متوالية الحروب الوحشية على القطاع. وكان يقول يجب أن تصل الضفة الغربية إلى القطاع. وإذا تم الإنسحاب من الجانب "الإسرائيلي "في الضفة الغربية، ستتحقق أول خطوة على طريق التحرير". وكان يرى هذا الإنسحاب من الضفة قريب مع بداية الإنتفاضة الثالثة.
وحول تواصل الفعل النضالي الفلسطيني ورموزه، تقول شيرين "باسل إمتداد لتراكم الفعل النضالي الفلسطيني الثوري الذي لا يساوم، والذي يرفض المهادنة وكل الحلول الإستسلامية، والذي يحدد حلمه الأشمل في تحرير فلسطين من النهر إلى البحر"، مشيرة إلى أن لكل رمز ثوري بصمته على طريق التحرير. وتضيف "كان باسل يرى أن أي تجربة نضالية خارج فلسطين، هي معرضة للموت".ورفض كل الإغراءات المادية المغرية للكتابة في مواقع لا تتفق مع مبادئه الجذرية .وكان يسقط من حساباته كل من يقف في المنتصف .
كان باسل يركز على إنسانية البطل، وفق عمته شيرين التي تقول "كان يرفض بشدة فكرة البطل الأسطوري الخارق". وتضيف "باسل يعرف أن الوطن لن يحرر بدون دفع الأثمان الباهظة، لكن حين يتم تقاسمها، لا تصبح عبئاً". وتؤكد أن "الاشتباك مستمر مع العدو، والأمور ستتغير عندما نصبح جاهزين لنحول هذه الحالة الإيجابية إلى فعل مستمر على الأرض".
وتوجه عمة الشهيد كلمة أخيرة في الحوار بقولها "في الختام أقول: إقرأوا رواية باسل عميقاً كفكرة وأنقلوها لأولادكم، وليكن عنوانها: باسل المثقف، أول من يقاوم وآخر من ينكسر" .
نجوى ضاهر - صحافية فلسطينية