Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

فلسطين: علامات على ما يتبدل... نهلة الشهال

فلسطين: علامات على ما يتبدل...  نهلة الشهال

  لغضب جون كيري أو يأسه، كما عبّر عنهما في شهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس قبل أيام، دلالة كبرى. فالرجل سعى فعلاً إلى رأب التصدعات في المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية والوصول إلى شيء ما،

مهما يكن، ببراغماتية من يعتبر أن المحصلة وإن صغيرة يمكن أن يبنى عليها. بل هو (بموافقة أوباما بالطبع) اخترق مبدأ سيادياً اميركياً حين عرض إطلاق الجاسوس الأميركي اليهودي جوناثان بولارد، لتشجيع المسؤولين الإسرائيليين على القيام بالخطوة المطلوبة منهم. صحيح أن بولارد أوشك على إنهاء محكوميته (بعد سنة ونصف سنة)، وأن الأمر محرج خصوصاً لليهود في أميركا والعالم، لأنه يعيد طرح مسألة ما يقال له ازدواج الانتماء والولاء، وصحيح أنه يُدخل بذلك واشنطن كطرف يقايض وليس كوسيط فحسـب... لكن كيري وصل إلى هذا لرغبته في النجاح. ولَمْ! بل هو استدرج كره المسؤولين الإسرائيليين له.

الدلالة التي كشفها موقف كيري بعد مجهوداته، هي أنه ليست هناك عملية سلام تخص فلسطين. ومن كان حتى أمس متمسكاً بالوهم، لأسباب متنوعة، بات لزاماً عليه أن يقر بذلك. والمتمسكون كانوا من كل الأصناف: فلسطينيين من السلطة ومن محيطها بل من خارجها، صار الاشتغال بالمفاوضات مهنتهم، ليس فحسب كوسيلة لملء الوقت ومنع تجلي الفراغ وما يثيره من حاجة لإيجاد بدائل، وليس فحسب كتحديد لموقعهم السلطوي ومكانتهم (وألقابهم)، ولأنهم يتقاضون رواتب (وما تيسر) بفضل بناءٍ اسمه العملية السلمية الجارية، وانما أيضاً لأن تلك «العملية» تحدد علاقتهم بالعالم، وبشعبهم، وبعدوهم، وتمنحهم بهذا المعنى شرعية لكل ما سبق ذكره، ولأنها تنظّم الإطار الحياتي أو الدينامية التي تعود إليهم... وصولاً إلى تمكينهم من تسويق ظواهر تلازم الوهم الأصلي، كحالة القروض الميسرة للاستهلاك التي شاعت لفترة. ووحده الله يعلم إن كانت لها خدمات «سرية» أو نفع لأصحابها غير ذاك الهدف العلني المعنوَن بأن «عيشوا حياتكم عادية»، أو كحالة رام الله «العاصمة» الأنيقة التي لا ينقصها شيء، وتفسح للحياة المختلفة، كما يليق بالعواصم.

حدث كل ذلك (الصعود ثم الهبوط، ولو شئتم الانكشاف) في فترة قصيرة جداً. وسيلاحظ المؤرخون لاحقاً أن هناك وضعية فريدة هنا، تتمثل بترافق بين خواء وكثافة كبيرين معاً. فمن يريد، يمكنه الاستدلال على انعدام وجود عملية سلام تخص فلسطين من اليوم الأول لتوقيع اتفاقات أوسلو، طالما أنه يُؤرَّخ بها، حينما بدأ الطرف الإسرائيلي بالتأجيل والتسويف وإعادة النظر بالنصوص، ثم حاصَرَ المقاطعة، ثم أعاد اجتياح الضفة، ثم بدأ ببناء الجدار، ثم راح يصادر الأراضي ويبني المستوطنات ويوسع القائم منها، ثم قتل «أبو عمار»، ثم أعلن عن سلوان قرب القدس حديقة داوود، ثم أعلن أنه لم يفكر يوماً بأن القدس ليست موحدة كعاصمته الأبدية، ثم... الخ

وهناك أيضاً المصلحة الإسرائيلية في التمسك بالوهم. ففي ظله وبينما هو ممتد، جرى كل ما سبق ذكره، فكان خير ستارة قاسمة للمسرح، جزء يفاوض وجزء يصادر ويؤدّب ويقتل. وهناك المصلحة الدولية، حيث يعفي العنوان من التطرق إلى الأمر الفعلي، بل يحجبه تماماً ويغيّبه. ويبدو ما يجري «أخلاقياً» طالما هناك نيات حسنة وبحث مضنٍ عن حلول (ولو حدثت «عثرات»). ثم إن حالة «الشراكة» الفلسطينية - الإسرائيلية موّهت المواقع كما لم يسبق له مثيل: من هو المعتدي ومَنْ الضحية؟ وبات رائجاً توزيع اللوم، وشاعت مفردات جديدة لمرافقة كل ذلك. وهي ميوعة ملائمة لـ«روح العصر» كما كان يقال في وصف السمات.

فهل يمكن رعاية الوهم خشية الاضطرار لمواجهة الواقع؟ (المطروح هو «الإمكان» وليس إن كان «يجوز»، فالجواز مفردة تعود إلى عالم الأخلاق الفضفاض على أقل تقدير، أو اللعوب والمنافق وفق المتشددين). لم يعد ممكناً. وهذا عبء ومأزق، بانتظار أن يكون فاتحة اضطرار لبلورة ما يمكن أن يكون منهج تحرر وخلاص (أو ربما خضوع واندثار، لأنه، تعريفاً ومنهجياً على الأقل، فالاحتمالات ليست كلها حتماً إيجابية).

وفي انتظار ذلك، لا بد من رصد ما تغير نتيجة العقدين المنصرمين. وهذا إحصاء لا ينجح لو اتّبع منهج العلوم السياسية... أو الرياضيات، بل يتطلب حدساً لا يملكه الخبراء في هذين الميدانين.

فما معنى أن يضجر المسؤولون الأميركيون من إسرائيل وتصرفات قادتها، ولو كانت المصالح والحسابات تمنع وصول تأففهم إلى العلن الصريح واستخلاص النتائج؟ وما معنى أن ينتهي ابتزاز إسرائيل لأوروبا بسبب إبادة اليهود في الحرب الثانية (وقبلها الغيتو وقبلهما محاكم التفتيش...)، فلا يعود التلويح بها نافعاً ولا تعود تهمة «معاداة السامية» مشتغلة فعلاً؟ وما معنى تلك الأحابيل التي يطلقها المسؤولون الإسرائيليون حين «يسرّبون» بانتظام أن دولاً عربية تتصل بهم سراً لتقول لهم أنها تعتمد عليهم، أو أنهم «يظنون» أن ليس كل العرب ضدهم، إلى آخر ما يبدو ساذجاً أو بليداً، وبكل الأحوال غير مفيد. ما معنى أن يُقبل منح فلسطين صفة الدولة غير العضو في الأمم المتحدة عام 2012، وفي تاريخ رمزي هو اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وسط تصفيق وتأثر نادرين؟ ما معنى أن تقبل قبل أيام طلبات فلسطين للانضمام إلى هيئات الأمم المتحدة ووكالاتها، والتي قُدمت رداً على التعنت الإسرائيلي الأخير: اعترضت إسرائيل وسمّتها «خطوة أحادية الجانب». مدهش! فهو تجسيد لمبلغ فوات منطقها. ولو أن السلطة وضعت خطوتها تلك في إطار المساومة... فلنعتبر ذلك إخراجاً، بانتظار طلب عضوية سائر الهيئات والوكالات، ومنها ما هو «مؤجل» أي محكمتي الجزاء والعدل الدوليتين.

ثمة كثير من العلامات التي يجدر رصدها ومتابعتها، فهي مؤشر إلى الآتي، وهي سند لبلورة المطلوب. مثلاً أن يصف نتانياهو حركات الدعوة إلى «مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها ومعاقبتها» (BDS)، المنتشرة في العالم كله، ومنه أميركا وجامعاتها وروابط الأساتذة فيها، بالخطر الاستراتيجي لأنها تهدف إلى «نزع الشرعية» عن إسرائيل. وهو محق تماماً، فذلك هو عنوان الصراع للمرحلة المقبلة، وهو نقيض العملية السلمية.