كان يخطُ رسالةَ إلى قيادة الانتفاضة، ليلة باغتته فرقة الموت الإسرائيلية في فجر الساس عشر من أبريل/نيسان عام 1988، والتي تسللت إلى تونس، عبر البحر والبر، لتزرع سبعين رصاصة في جسده. كان لا بد من التخلص من خليل الوزير- أبو جهاد (1935 - 16 نيسان/أبريل 1988)، كان لا بد من إنهاء رمزٍ مقاوم، ليس في روحه مكان لاستسلام أو خذلان.
لم تنجح العملية الفدائية في الوصول إلى المفاعل العسكري في ديمونا، كما لم تنجح قبلها عملية وزارة الدفاع الإسرائيلية، لكن التفاصيل التي جمعها أبو جهاد ومساعدوه أذهلت الإسرائيليين، لكن ما أقنعهم بخطورته رسالته الدائمة: إبقاء جذوة المقاومة مشتعلة في وجه بطش الاحتلال ومشاريع تصفية القضية الفلسطينية.
لم تكن العمليات العسكرية بذاتها تهديداً مباشراً لأمن الكيان الصهيوني، لكنها، وككل أشكال المقاومة، تشكل تحدياً لمشروعية المخطط الصهيوني جوهراً وتفصيلاً، خصوصاً وأن عملية ديمونا كانت دعماً لانتفاضةٍ شعبيةٍ شاملةٍ، هزت عالماً استكان لسطوة الاحتلال، بعد خروج المقاومة الفلسطينية ومنظمة التحرير القسري من بيروت.
كان أبو جهاد، بهدوئه المعروف، لا ينشغل بما يسمى عملية السلام، ولا تهزه التهديدات الأميركية، بل كان يؤمن بأن يدعهم يتحدثون، وعينه "غربا" "على الداخل الفلسطيني"، فالهدف كان يقول دائماً جعل الاحتلال يدفع ثمن احتلاله، وتكثيف الاتصالات بالفلسطينيين، لإيجاد قاعدةٍ واسعةٍ شعبيةٍ للمقاومة.
كان يرصد كل حركة، وكل تغيير في كل حارة وشارع، في أرجاء وطن يكبر في قلبه وخياله. وجدته، مراتٍ، يفرد لفافة ورقة، هي رسالة من أسرى ومناضلين، ويسجّل في دفاتره كل خطوة توسعية للاحتلال، أو لنصر، ولو صغيراً، لصمود شعب محتل، في كل قريةٍ ومدينةٍ ومخيم لجوء.
كان يواجه غضب حماوة الشباب عندي على موقف القيادة الفلسطينية من المشاريع الأميركية، بأن يطلب مني الصبر. وبعيون واثقةٍ مصممة، يشوبها حزن طفل شهد سلبَ وطن وتشرد شعبٍ، كان يقول كلمات أتذكرها دوماً: يجب قلب الموازين، وليس الاستكانة لها.
أذكر كلماته هذه اللحظات، وقد غابت رؤيةٌ استراتيجيةٌ لمعنى المقاومة بكل أشكالها، فالمقاومة ليست احتفالاً فولكلورياً أسبوعياً، لنقنع أنفسنا بعد تقصيرنا وقصورنا، بل عملية دائمة ممنهجة، وفكرة متجذرة مستمرة، ومن الخطر العبث بها، كأداة مناورة للحصول على "مكاسب وهمية" في مفاوضات عبثية.
نتذكّر "أبو جهاد"، في زمن احتفاءٍ مشروع بالمقاومة اللاعنفية أو السلمية، وتهليلٍ غير مشروع، بل ومشبوه، بحصر أشكال المقاومة، بأساليب ترضي الغرب، وتخلق أبطالاً حقيقيين ومزيفين، بل فقاعات: لأنها لا تتطلب تضحية أو خطورة.
المقاومة لا تنحصر بالكفاح المسلح. لكن، لا يمكن حصرها أيضاً بأي شكل، حسب تيار وموضة. وفي ذكرى اغتيال أبو جهاد، نتذكر خطورة تجزئة المقاومة، فكرةً وممارسة، حسب عرضٍ وطلب، في سوق التمويل الغربي، ومؤتمرات ومهرجانات تفرغ الفكرة من مضمونها الوطني، أو وفق تكتيكات سلطةٍ عاجزة، قصيرة النظر والنفس.
المقاومة تتطلب نفساً تحررياً، وليس ممارسات تبعية، في انتظار فتات المائدة الأميركية. أبو جهاد، ومناضلون قبله وبعده، لم ينتظروا على الأبواب، ولم تمنعهم الجدران، سياسيةً أو خرسانية، فاستشهدوا، أو أُبعدوا، أو أصبحوا أسرى معتقلاتٍ، لم تفقدهم حرية إرادة، أو إرادة الحرية.
استشعر أبو جهاد لحظة الجريمة، ولم يتردّد في المضي بثبات، بل قال لي إننا يجب أن نتوقعها، ليس لأنه مستهتر بحياته، فهو انخرط في حركة لتحرير وطن، وليس حفاظاً على سلطةٍ حبيسة احتلال، حركة تحرر لا تتعلق بحبال "مبادرة كيري"، أَو رضى واشنطن.
قدس