مئات الفلسطينيين احتشدوا أمام منزل عائلة الشهيد مصباح أبو صبيح وسط بلدة الرام في القدس بعد ورود نبأ استشهاده، مرددين هتافات تحيّي الشهيد وعائلته وتعاهد على مواصلة المقاومة ضد المحتل والدفاع عن المسجد الأقصى.
داخل المنزل اختلطت حرقة دموع الفراق بحرارة الفخر والاعتزاز، وهو ما بدت عليه حال والدة الشهيد الحاجة "أم مصباح" حين قالت: "آآه يا إمي بنعرف أنه رايح يسلم حاله للشرطة، تفاجأنا بخبر العملية واستشهاد مصباح من وسائل الإعلام".. وتضيف وقد أضناها الحزن: "بعديها اجو أكثر من 50 جندي فتشوا الدار.. الحمد لله طلب الشهادة ونالها"
وتؤكد السيدة الستينية أنها استشعرت بشيء لخروجه باكرا من البيت سيما وأن موعد ذهابه للشرطة لم يحن بعد. ولتبدأ بالبكاء مع تردد الأنباء الأولية عن تنفيذ شاب يبلغ عمره 39 عاما من سلوان عملية إطلاق نار فدائية في الشيخ جرّاح، ثم تتلقى الخبر اليقين: "مصباح أبو صبيح استشهد".
تتابع الأم حديثها بحرقة وفخر متلازمين: "عجّبوه عليه يمّا.. بآخر أسبوع وقّفوه خمس مرات ومن قبل منعوه يصلي بالأقصى وأبعدوه عن القدس.. الحمد لله ربنا طعمو الشهادة".
في تلك اللحظات تعلو أصوات الهتافات قادمة الحشد المتجمهر بالخارج: "يا إم الشهيد نيالك ياريت إمي بدالك.. ياشهيد ويامجروح دمك هدر مابروح.. خلي الشهيد بدمو وألف تحية لإمّو".. لتهرع "أم مصباح" بالنزول واقتسام مرارة الحزن والغضب مع رفاق ابنها.
"أسد الأقصى" كما يلقبه الأصدقاء والأقارب لرباطه الدائم في المسجد المبارك، جرّب الاعتقال في سجون الاحتلال مرات عدة، ولم يكن شخصا اعتياديا بنظر كثير من المقدسيين، بل هو صاحب الحضور الطيب والشجاعة.
وفي خضم الضجيج، يقول جبر شقيق الشهيد: " كان مصباح مطلوب للاعتقال ... ضغطو عليه كثير خلال آخر أسبوع ووقفوه 5 مرات.. أول اشي أبعدوه عن البلدة القديمة بعدين عن الأقصى وآخر اشي عن القدس".. ويضيف: "مصباح شخص عادي بحب الحياة وعائلته وبحب الناس والكل بحبوه ... الاحتلال هو اللي بوصل الناس لهاي المرحلة وبولد الضغط عليهم وبطبيعة الحال الضغط بولد الانفجار".
ويوضح أيضا أن قوات الاحتلال اعتقلت والده (أبو مصباح) من المنزل وحولته للتحقيق لدى جهاز "الشاباك" رغم علمها بمرضه ومن دون مراعاة تقدمه في السن وكونه منهارا إثر استشهاد ابنه، لتفيد الأنباء بنقله إلى مستشفى "هداسا عين كارم" نتيجة تدهور صحته تحت ضغط التحقيق، قبل أن يتم الإفراج عنه وتلتقط عدسات الصحفيين صوره يبكي نجله الشهيد ويعانقه الأهل والجيران.
أما إيمان ابنة الشهيد، فبدت واثقة متفائلة، وطغت ابتسامتها على حزن فقدان الوالد، حيث تقول: " أنا شفت أبوي الصبح آخر مرة عند صلاة الفجر .. أول مرة بيفرشلي سجادة الصلاة والي أخ صلّى معنا .. بعدها رحت أنام وسلمت على أبوي وقبّلتو".. وتتابع: "قلتلو بابا مابدك ازورك بالسجن فقللي أهم شي انتبهي ع دراستك هالفترة بعديها ودّعني وطلع ع أساس رايح يسلم حالو للشرطة".
ولدى حديثها عن معاناته من تنكيل الاحتلال، تبين إيمان: "أول اشي منعوه من السفر .. بعدين منعوه من الأقصى، بعدين منعوه دخول القدس نهائيا... وكل يوم توقيف ومراجعة بخللو الواحد يقرف !!"..
ابنة الشهيد تؤكد أن أباها أمضى الليالي الأخيرة في قراءة القرآن طالبا إليها وإلى أمها وأشقائها الأربعة الدعاء له. وتختتم كلامها بالقول: " والدي كان أبا رائعا كريما بكل معنى الكلمة وكل أهالي القدس يحبونه.. بصراحة لم نتوقع يوما أن ينفذ عملية فدائية لكن الحمد لله، إن شاء الله سيشفع لنا".
وفي زاوية ليست ببعيدة عن المنزل، يتجه شبان الرام غاضبين إلى نقطة التماس مع جيش الاحتلال عند الموقع العسكري، لتقع مواجهات تسفر عن إصابات بالرصاص المطاطي وقنابل الغاز، لكنّ الغضب استمر يتدفق إلى قلوب المقدسيين رغم محاولات الجنود قمعهم، فمواجهات البلدة امتدت لتشمل معظم أرجاء القدس ليلا وتحولها إلى كرة من اللهب.
لم يكتف الاحتلال باستخدام السلاح في محاولته تطويق الغضب المقدسي، بل تداعت قيادته السياسية متمثلة بالمجلس الوزاري المصغر "كابينت" للاجتماع ودراسة الأوضاع الأمنية على خلفية العملية وتحديد الإجراءات الواجب اتباعها.
وبالرغم من وجود آلاف الأشخاص عبر صفحة الشهيد على موقع فيسبوك والتي تحمل اسم "مصباح أبو العز" إلا أن إدارة الشركة عمدت لإغلاق الصفحة، وهو ما يتماشى مع الاتفاق المبرم بينها وبين الجانب الإسرائيلي بمراقبة المحتوى الفلسطيني وحذفه.
لعل التفاعل الكبير مع المنشور الأخير الذي دونه مصباح على صفحته، والذي يمثل وصية ما قبل الشهادة كان دافع فيسبوك لإغلاق الصفحة، وجاء فيه: "كم أشتاق لعشقي .. كم أشتاق وكنت أتمنى لو كنت آخر ما أراه وأقبله وأسجد على ثراه أقبل ترابك وأصلي فيك.. .. رغم سجونهم حقدهم جبروتهم قالوا 4 أشهر سجن لحبي إياك قلت والله قليل فعمري وحياتي وكل مالي فداه ... الأقصى أمانة في أعناقكم فلا تتركوه وحيدا".
لكن تلك الوصية فضلا عن الكلمات التي وثقتها وسائل الإعلام للشهيد ضمن مقطع مصوّر، لا يستطيع أيّ كان مسحها من ذاكرة الشباب المنتفض.. فأبو صبيح دعا قبيل استشهاده إلى المرابطة في الأقصى والدفاع عنه، وأكد أنه عائد إلى القدس رغم الإبعاد الجائر عنها الفترة الماضية ومن ثم استدعائه للاعتقال أربعة أشهر، ليختار العودة بالطريقة الثورية التي لا تخضع لإملاءات أحد، حيث عزّ عليه تسليم نفسه للمحتل.
شرطة الاحتلال كانت حظرت في الساعة الأولى بعد العملية نشر أي تفاصيل حولها، لتعلن وسائل الإعلام الإسرائيلية لاحقا مقتل مستوطن وضابط في وحدة "اليسام" التابعة للشرطة وإصابة ستة آخرين في عملية إطلاق النار التي نفذها أبو صبيح بواسطة سلاح فردي اقتناه، ولتبدأ بعدها مطاردة الشاب وهو يقود مركبته فيُستشهد باشتباك مسلح في جراح أرهق خلاله عناصر الشرطة ورفض الاستسلام لهم.
وكعادتها، احتجزت سلطات الاحتلال الجثمان في ثلاجات الموتى، ظنا منها أن تبريده سيطفئ النار المتقدة في قلوب الفلسطينيين، لكن قادم المواعيد يحدد من يموت أخيرا ويحيا خالدا.