عبد الناصر عوني فروانة قيل منذ القدم، أن الجوع كافر، فيما هناك من الفلسطينيين من جعلوا من الجوع ثائراً خلف قضبان سجون الاحتلال الإسرائيلي، في وجه السجان وظلمه وقسوته واجراءاته التعسفية وسياساته القمعية.
و"بلال كايد" هو واحد من أولئك الأسرى الأبطال الذي أصرّ على أن يكون ثائراً بأمعائه الخاوية في وجه الظلم الإسرائيلي احتجاجاً أصيلاً على رفض سلطات الاحتلال إطلاق سراحه بعد انتهاء محكوميته البالغة أربعة عشر سنة ونصف، ورفضاً لتحويله للاعتقال الإداري لتبرير استمرار احتجازه دون تهمة أو محاكمة.
"بلال كايد"، ذاك الأسير الفلسطيني المضرب عن الطعام منذ الخامس عشر من حزيران/يونيو الماضي، يشكل حالة نضالية فردية وفريدة، قلما شهدتها السجون في "إسرائيل" والعالم قاطبة، ويقدم نموذجاً ساطعاً في التحدي، ويمضي بإصرار لا يلين نحو قرص الشمس، ليسطّر صفحة مضيئة من الصمود والعنفوان تضاف لصفحات المقاومة الباسلة خلف قضبان السجون، متسلحاً بقوة الحق وعدالة القضية، وبإرادة فولاذية لا تنكسر وعزيمة لا تلين، وثقة لا تتزعزع بحتمية الانتصار، ثقته بنفسه، وثقته برفاقه وإخوانه الأسرى، وثقته بشعبه وأمته وأحرار العالم أجمع.
"بلال كايد"، يجسّد بإضرابه عن الطعام ثقافة متجذرة نعتز بها كفلسطينيين، ونفخر ونسمو بها كحركة أسيرة عنوانها "مقاومة الاحتلال في السجون وأسرى فلسطين نموذجاً". تلك الثقافة التي جسدتها الحركة الأسيرة بجماعيتها ووحدتها منذ بدايات الاحتلال الإسرائيلي لباقي الأراضي الفلسطينية عام 1967، والتي تعتبر امتداداً طبيعياً لحالة الاشتباك اليومي والمواجهة المباشرة مع الاحتلال خارج السجون. وفي هذا السياق خاضت الحركة الأسيرة عشرات الإضرابات عن الطعام وحققت من خلالها الكثير من الانتصارات وانتزعت العديد من الحقوق.
"بلال كايد"، وكما هو يجسد ثقافة المقاومة، فانه يشكل امتداداً لظاهرة المواجهة الفردية خلف القضبان. إذ لا يمكن الفصل فيما بين الحالة التي يشكلها "بلال" عن الظاهرة التي فجّرها الأسير "خضر عدنان" أواخر عام 2011، ومن ثم تبعه وعلى ذات النهج العشرات من الأسرى أمثال "أيمن الشراونة" و"سامر العيساوي" و"ثائر حلاحلة" و"بلال دياب" و"محمود السرسك" و"أكرم الريخاوي" و"محمد القيق" و"سامي جنازرة" وغيرهم ممن خاضوا الإضرابات الفردية عن الطعام لشهور عديدة وسجلوا تجارب فريدة.
"بلال وجيه كايد" فلسطيني الهوية والانتماء، يبلغ من العمر خمسة وثلاثين سنة، ويقطن بلدة عصيرة الشمالية قضاء نابلس في الضفة الغربية، وكان قد اعتقل في الرابع عشر من كانون ثاني/يناير عام 2001، وحكم عليه بالسجن الفعلي لمدة أربعة عشر سنة ونصف، بتهمة مقاومة الاحتلال والانتماء لكتائب الشهيد أبو علي مصطفى الذراع العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وبعد انقضاء المدة رفضت سلطات الاحتلال إطلاق سراحه بذريعة أن خروجه من السجن يشكل خطراًً على "الأمن الإسرائيلي"، فأبقته في سجونها أسيراً، ومن ثم حولته للاعتقال الإداري لتبرير استمرار احتجازه، في سابقة هي الأخطر، مما دفعه لإعلان الإضراب المفتوح عن الطعام، ومن ثم انضم إليه عشرات الرفاق تضامناً معه ورفضاً لسياسة الاعتقال الإداري، ومع الوقت اتسع نطاق الإضراب في السجون وأحدث حراكاً نضالياً داخل وخارج السجون، فلجأت إدارة السجون للمماطلة والمراوغة وتقديم العروض لكسر الإضراب وإنهائه، مما دفع "بلال" ورفاقه إلى رفض كل تلك العروض، والإصرار على المضي في الإضراب حتى انتزاع حريته المشروعة.
"بلال كايد".. تشرّب مبادئ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ صغره، وتعلّم في مدارسها الحزبية والثورية، وتتلمذ على فكر وتوجهات قادة تاريخيين للثورة الفلسطينية المعاصرة، ورافق الأمين العام "أحمد سعدات" في غرف السجون وزنازين العزل الانفرادي، فتفولذ عوده واشتدت صلابته وأصبح واحد من قيادات الجبهة الشعبية في سجون الاحتلال، فكان وفيا للمقاومة، ومخلصا لكل من اشهر سلاح الاضراب من قبله، وكان حريصاً بمواقفه وخطواته أن لا يبقي أحدا لوحدة يقارع السجان-كما هو حال جبهته-. فشكّل هو ورفاقه سندا للأسرى الآخرين على اختلاف انتماءاتهم في معاركهم ضد السجان، واليوم هو ورفاقه بحاجة للكل الفلسطيني خلف القضبان، وبحاجة لدعمنا خارج السجون، لأنه يمثل قضية وينوب عن الجميع في معركته، حيث أن ما حصل معه يعتبر سابقة نادرة وخطيرة ولربما إذا نجحت الإدارة في تمريرها بأن تنجح لاحقاً في تطبيقها مع الآخرين من الأسرى المحكومين..
"بلال كايد"، ورغم علمنا بانتمائه للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلا أننا يجب أن لا نأخذ ذلك بعين الاعتبار في طبيعة ومستوى وقوفنا بجانبه ومساندتنا له، ويجب أن نقف على مسافة واحدة من الأسرى كافة، على اختلاف انتماءاتهم الحزبية وتوجهاتهم السياسية. وكما وقفنا بالأمس البعيد بجانب الأسير "خضر عدنان" (جهاد اسلامي) و"سامر العيساوي" (جبهة ديمقراطية)، وكما دعمنا بالأمس القريب الأسير "محمد القيق" (حماس) و"سامي جنازرة" (فتح)، فإن الواجب الوطني والإنساني والأخلاقي والحقوقي يفرض علينا اليوم أن نقف بجانب "بلال كايد" وندعمه ونسانده في معركته المفتوحة مع السجان وما يمثله بغض النظر لأي فصيل ينتمي، ومن أي عائلة أو منطقة جغرافية ينحدر، فيكفينا فخراً أنه فلسطيني حرّ رغم الأصفاد الإسرائيلية التي تكبل يديه وقدميه، وهو من قرر أن ينوب عنا جميعاً ويشعلها بجوعه ثورة في وجه السجان الإسرائيلي.
"بلال كايد".. نستسمحك عذراً إن كنا قد قصَّرنا في مساندتك، أو إن كنا قد تخلفنا عن الاستجابة للمشاركة في فعاليات وأنشطة نظمت هنا أوهناك دعماً وإسناداً لإضرابك، أو إن كنا قد صمتنا في لحظات ما كان يجب أن نصمت أمام جوعك لأجل الحياة الكريمة ولأجل الحرية المشروعة. لكن تأكد تماما أننا بجانبك في معركتك وسنكون سندا لك ولكل من آمن بخيار المقاومة وسيلة للذود عن الكرامة وانتزاع الحقوق المسلوبة والحرية المشروعة. وسلاح الأمعاء الخاوية هو أرقى أشكال المقاومة والمواجهة خلف القضبان.
وأخيراً، نأمل بأن تؤسس الخطوات الجماعية الأخيرة والتي أعلن عنها داخل السجون تضامناً مع الأسير "بلال"، بداية لمرحلة جديدة من العمل الوحدوي وإعادة الاعتبار للعمل الجماعي والخطوات النضالية الشاملة. هذا أملنا وتلك هي طموحاتنا وتطلعاتنا. فبوحدتنا تكمن قوتنا. فاتساع نطاق الحراك النضالي داخل السجون، وارتفاع وتيرة الفعل التضامني المساند لذاك الحراك خارج السجون، هو ما سيشكل ضغطاًً على الاحتلال ويدفع إدارة السجون إلى التحرك الجاد والبحث عن حلول مقبولة. فالأوضاع في السجون تزداد سخونة، ليس بفعل حرارة تموز المتوقدة، وإنما جراء لهيب ثورة أشعلها "بلال كايد".
* باحث مختص بقضايا الأسرى، ومدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين.