لا شك بأن مخيمات شعبنا الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي دول الطوق العربي، عندما كانت هناك دول طوق، والتي هي الآن أغلبها دول تطويق للقضية الفلسطينية، شكلت حاضنة نضالات شعبنا الفلسطيني وكفاحه المستمر والمتواصل مع المحتل الصهيوني،
وهي من دفعت وما زالت تدفع الثمن الأغلى والأكبر في هذا الصراع، ومنها تخرّج الكثير من قادة شعبنا ومناضيله، عندما كان هناك قادة حقيقيون يعبّرون عن هموم شعبهم ويلتحمون معهم في كل قضاياهم، والمخيمات لم تكن فقط بؤر نضال وثورة وتثوير، بل كانت الملهم والمحرك للنضال والتضحية والعطاء، والشاهد على المأساة التي ارتكبها المحتل الغاصب بحق شعبنا، حيث احتل أرضه بالقوة لكي يحلّ محلهم مستوطنين غزاة متسلحين بشعارات كاذبة ومضللة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وضمن هذا الشعار جرى طرد وتهجير شعبنا، وارتكبت المجازر بحقه، ومورست ضده كل أشكال الإرهاب والتطهير العرقي لحمله على الرحيل القسري، وليجري هدم أكثر من (531) قرية فلسطينية، من أجل محو حق عودة لشعب، حق تجذر في أعماق ذاكرة شعبنا ووعيه ووجدانه الشعبي.
القوى الإستعمارية الغربية وفي المقدمة منها بريطانيا التي زرعت هذا الكيان في قلب أمتنا العربية، لكي يمنع توحدها ويحمي مصالحها في المنطقة، ويجعل من "إسرائيل" العصا الغليظة التي يجري بواسطتها إستهداف أي نظام عربي وطني أو حركة تحرر عربية تتصدي للمشاريع الإستعمارية في المنطقة.
هذا الكيان ظل يلقى الرعاية والإحتضان والحماية والدعم من تلك القوى الإستعمارية، ولتنتقل أمور رعايته وحضانته ودعمه وحمايته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه القوى بدلاً من أن تنصف شعبنا الفلسطيني وتعيده إلى وطنه بعد ثمانية وستون عاماً من اللجوء والتشرد، بقيت ترى الأمور بعيون إسرائيلية وتحوّل شعبنا من ضحية لجلاد والجلاد المحتل والحقيقي إلى ضحية، في "تعهير" غير مسبوق لقوانين وقرارات ومبادئ الشرعية الدولية، وإزدواجية وانتقائية في تطبيقها.
تلك القوى الإستعمارية ودولة الإحتلال ودول إقليمية وعربية، سعت دائماً إلى كيفية التخلص من حق العودة هذه وجرت الكثير من المحاولات في العديد من الأزمات العربية، لكي يجري شطب هذا الحق عبر التهجير مرة أخرى أو التوطين، هذا كان إبان الحرب الأهلية اللبنانية 75 – 76 والحرب الإسرائيلية على المقاومتين الفلسطينية واللبنانية في عام 1982، وطرد المقاومة إلى خارج لبنان، وكذلك أثناء غزو العراق ومن ثم إحتلاله، وما شهدناه وما نشهده على يد الجماعات الإرهابية والتكفيرية التي تحصنت في مخيم نهر البارد، ليجري تدميره على يد الجيش اللبناني وتهجير سكانه، والذين جزء كبير منهم يحرم من العودة للمخيم حتى الآن، وما جري ويجري في مخيم اليرموك، أكبر المخيمات الفلسطينية في اللجوء، حيث احتلته ودمرته العصابات التكفيرية والإرهابية، وهجرت أغلب سكانه، ومنعت عودتهم، لكي يهاجروا إلى كندا وأستراليا والسويد..الخ، من البلدان الغربية الإستعمارية، كل ذلك بهدف إلغاء حق عودتهم إلى وطنهم وأرضهم التي هجروا وطردوا منها قصراً على يد الإحتلال الصهيوني.
كل المحاولات لشطب حق العودة لشعبنا الفلسطيني سواء عبر مبادرات ومشاريع سياسية مشبوهة الأهداف والمرامي، أو عبر عملية الذبح والتدمير، فشلت في محو هذا الحق من ذاكرة شعبنا الجمعية ووعيه، ومقولة بن غورين أحد قادة ومؤسسي الحركة الصهيونية "كبارهم يموتون وصغارهم ينسون" تثبت فشلها، والجيل الجديد من أبناء شعبنا، بمن فيهم جيل ما بعد أوسلو يبدون تمسكاً وتشبثاً بحق العودة لشعبهم، أكثر من أي جيل آخر، هذا الجيل الذي كان المحتل يراهن على "كي" واختراق وعيه، وهزّ قناعته بعدالة قضيته ونضالاته وتضحياته وحقوقه الوطنية، هذا الجيل هو الآن من يقود الإنتفاضة الشعبية، ويشكل مهماز حركتها وقيادتها، ولعل مخيمات شعبنا في الضفة الغربية، هي من تدفع الثمن الأكبر والأغلى في هذه الإنتفاضة الشعبية، كما هو الحال في الإنتفاضتين السابقتين وكل المعارك التي خضناها ونخوضها ضد المحتل الصهيوني، وليس مزاودة على أي مخيم فلسطيني أو التقليل من نضالاته، فمخيمات القدس شعفاط وقلنديا كانت عناوين بارزة في هذه الإنتفاضة الشعبية، من حيث عدد الشهداء الذين قدمتهم والجرحى والمعتقلين، أو المبادرات الشعبية الخلاقة من خلال القيام بحملات شعبية لإعادة إعمار بيوت الشهداء، مبادرة إعادة إعمار بيت الشهيد العكاري في مخيم شعفاط نموذجاً، وكذلك كانت مخيمات بيت لحم الدهيشة وعايدة والعروب في الخليل ..الخ.
المخيمات كانت وستبقى أصل الحكاية وجوهر الصراع، هذا الصراع سيبقى قائماً ومستمراً، ما دامت عناصره قائمة وموجودة، فلا حل أو نهاية لهذا الصراع، تتجاوز جوهره ومرتكزه الأساسي، حق العودة لشعبنا وفق القرار الأممي (194)، هذا الحق فردي وجمعي وقانوني وتاريخ، لا يسقط بالتقادم، ولا يحق لأحد أن يتخلى أو يتنازل عنه.
وهذه المخيمات ستبقى شاهداً على الجريمة، وعلى "عهر" المجتمع الدولي ونصرته للجلاد على الضحية، كما أنها ستبقى بؤر مشتعلة للثورة والنضال والكفاح ضد المحتل، وسيبقى أبناؤها ورثة شرعيين لدماء الشهداء، وسيستمرون في حمل الراية وتسليمها من جيل لجيل، حتى تتحقق أهدافهم في العودة إلى ديارهم التي هجروا وطردوا منها قسراً، وسيبقى الآباء يورثون أبناءهم مفاتيح بيوتهم التي لا ولن تصدأ.