Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

قباطية.. دم في عيني..!.. عيسى قراقع

قباطية.. دم في عيني..!.. عيسى قراقع

بلد في كينونة، نصفها رصاص ونصفها أسطورة في فيض أشلاء، توسدت سندس الله، لم يستسلموا للاحتلال، صوت جائع للحق المبين، في بلد تسمى قباطية، تقع في بطن واد ضيق بين شعبتين جبليتين، تطل على البحر من بعيد، تبسط يدها اليمنى على سهل عرابة، ويدها اليسرى على جبل دوثان الأثري، وبين عينيها يضيء مثلث الشهداء.

قباطية الفلسطينية، دم في عيني، تتدلى جدائلها كقطوف دانية في دوالي الراحلين، يجتمع الشهداء المعدومين والمقتولين تعسفا وميدانيا حول ابتسامتها الواسعة: في الخليل ونابلس والقدس وبيت لحم وأريحا وغزة ورام الله، كمثل صف طويل من التلميذات يجلسن حارسات على بوابة المدرسة.

قباطية، دم في عيني، وردة تحمل الليل كله بين أكمامها، تتكئ على صدر شهيد وشهيدة، تعطي خصرها لزند الهواء، تحتضن الحياة بشهوة وتبوح بأسرارها، أثداء الشوارع تدر غزيرة، الحليب دم، والملائكة أطفال صغار يسيل دمهم على حصير الوقت، تفوح رائحة مستقبل لا يأتي إلا من هذه الجثث المتطايرة.

الجنة رأيتها تحت قدمي قباطية، وإلا ماذا تقولون في بشر كل منهم يعيش داخل موته المستقبلي، لا يملكون سوى حلم واحد، أن يكتمل سهل عرابة بالقمح، لتقرأ الأرض بجسدها مخاضها الربيعي.

ما أجملك قباطية، بلد الصخور والمحاجر، حجر قباطية يشق غباره، يصير له عينين لامعتين، دم يراق كأنه ينبجس من طين الجنة الأحمر، ينقشها ازميل سليم كميل على جدران الموت في تلك السجون المظلمة.

في قباطية، رأيت أغصاناً يانعة في أجسام شهداء يانعين، يبحثون عن الهواء الطلق في أشعة شمس تنزل كاليقين الدافئ فوق أهدابها، تمسك بيد الموت في لباس مدرسي أخضر وتغني.

هكذا تكلمت قباطية، أزاحت القيد عن شفتيها، وتجندل أبو جندل في ملحمة مخيم جنين، أعدموه واقفاً كسارية تمتطي فرساً في فضاء اللاجئين.

هكذا تكلمت قباطية، طفل يكرر ولادته الجميلة، محمولاً على ذراع الفجر إلى القدس، يخرج من صرة المدينة ضوء، ومن رحمين وشجرتين وذاكرة.

هكذا تكلمت قباطية، شهداؤها يكتبون تاريخاً آخر للصوت والحرف والكلمة، صرح الشهداء الفلسطينيين إلى جانب صرح الشهداء العراقيين، وجه زياد عامر ومحمود طوالبة وأبو السباع ومنير وشاحي وطه الزبيدي ونضال سويطات ونجلة وضاح، يشيرون باصبعهم إلى البحر المتوسط، وسمعنا نشيداً يتردد من حنجرة التاريخ.

قباطية، دم في عيني، كلما اتسع الموت الفلسطيني، ضاقت الحياة على الإسرائيليين، نزلوا إلى أسفل سافلين فساداً وأخلاقاً، وصاروا من المرجومين حاضراً وغيباً، مسجونين وراء جدار وحواجز ومعسكرات، مرهقين من حالة الطوارئ الدائمة وهم يهتفون: دعوا الجيش ينتصر.

قباطية، دم في عيني، يطل الشهيد الأسير فادي الدربي من نافذة السجن، يعود إلى أمه بعشر سنين فائضات في الموت، وبعشرة سنابل حاملات ناضجات متجددات في الجفاف، هم أسرى يعلنون حياتهم بعد الممات.

صباح الخير يا قباطية، ينسكب الفجر فيك ويتوزع على الأفق، شهداء يحملون مفاتيح قلوبهم وينتشرون: أحمد محمد كميل يسقط على حاجز الجلمة، قاسم سباعنة يسقط على حاجز زعترة، محمود نزال يسقط على حاجز حوارة، أحمد عوض أبو الرب يسقط على حاجز الجلمة، نور الدين ومحمد سباعنة يسقطان على حاجز حوارة، وأحمد زكارنة وأحمد أبو الرب ومحمد كميل يسقطون في القدس، عرجوا إلى الأعالي من باب العامود، يحملهم الغيم والصلاة.

قباطية، دم في عيني، اشتباكات أمام البيوت والعتبات، في المزارع والمحاجر وبين الكسارات، تواجه الجنود وتكسر الحصار، مواجهات تشارك فيها العجلات والحجارة والنكافات والتكبيرات، أولاد وبنات يخترقون جدار الصوت، تديرها رئة بلد تتنفس من أعناق النبوءات.

قباطية، دم في عيني، شهداء يعزفون فوق جسد السماء، لم يفرغ الغيم من الدم في فلسطين، ما هذا الشتاء؟ مطر ودم ورياح، ولم تكد الشمس تفرش منديلها حتى التحفت بالشهداء غطاء، ترتفع الأرض المبلولة، تغمس عضلاتها في عيون المساء.

 

صباح الخير يا قباطية

من يصنع حجراً

يصنع  برقاً

يحمله الحلم كل ليلة

قرباناً للفضاء

 

* وزير شؤون الأسرى والمحررين- رام الله.