حققت الانتفاضة وهي تدخل شهرها الثالث مجموعة من الإنجازات التي لا يحق لأحد ألاّ يقدّرها عالياً، ويذهب باتجاهها إلى آخر الشوط، ولا يحق لأحد أن يقول، أو يفعل، ما يذهب في الاتجاه المعاكس للانتفاضة بهدف إنهائها وتصفيتها.
وتبدأ هذه الإنجازات أولاً: بفرض التراجع، بعد عشرة أيام من انطلاقة الانتفاضة، على نتنياهو وسحبه قرار التقسيم الزماني للصلاة في المسجد الأقصى بين المسلمين واليهود. وهو ما أعلنه جون كيري بعد لقائه به تحت عنوان عريض عُرِفَ بالتفاهمات.
لقد أكد نتنياهو هذا التراجع من خلال إعلانه الحفاظ على "الواقع القائم" الذي يغطيه المصطلح القانوني الـ"ستاتيكو". ولكنه احتفظ ببقاء السيطرة الأمنية الصهيونية داخل باحات المسجد الأقصى متمسّكاً بالإشراف على زيارة غير المسلمين. الأمر الذي يُبقي المسجد وباحاته مُهدَّديْن بالتراجع عن هذا التراجع كما بمواصلة الانتهاكات التي تمثلها الحفريات تحت المسجد الأقصى.
ولكنه انتصار للانتفاضة ولو كان جزئياً ومؤقتاً. ولعل أهميته تكمن في تقديم دليل ملموس على ما تحمله الانتفاضة من إمكان تحقيق الانتصارات. فمن الممكن أن نقول ضمن هذا الوضع "إن أول الغيث قطر".
وثانياً: أن ردود الفعل لدى مجتمع الكيان الصهيوني وحتى جنوده تمثَّل بالخوف والرعب من ظاهرتَيْ الطعن بالسكاكين والدهس بالسيارات. فقد تواترت أنباء عن انخفاض الدوام في المؤسسات الحكومية بنسب ملحوظة وإلى انخفاض استخدام وسائل النقل العامة أو التنقل بالشوارع بنسب أكثر من ذلك بكثير. وهذه نتائج هائلة قياساً بتواضع عمليات السكاكين والدهس. الأمر الذي يسمح بالقول إن ما أنجزته الانتفاضة من هذه الزوايا على مجتمع الكيان الصهيوني، كان مهمّاً جداً.
ثم ثالثاً: يدل دخول الانتفاضة شهرها الثالث على أنها مصمّمة على المضيّ قدماً مهما فعل نتنياهو.
وهذا ما يوجب أن تُلمس الآفاق الرحبة التي تتضمنها الانتفاضة إذا ما تواصلت وتوسّعت ولا سيما إذا ما تحوّلت إلى انتفاضة شاملة تتحقق فيها أوسع وحدة وطنية، ومن ثم تنتقل إلى مستوى غمر المدن والقرى بمئات الألوف من الجماهير ومن كل الأعمار، بحيث تنقل أجهزة الإعلام منظر شوارع المدن والقرى وساحاتهما مليئة بالجماهير التي ترفع العلم الفلسطيني وتعلن تحرير المدن. أي عدم السماح للاحتلال أن يدخلها إلاّ إذا أراد احتلالها شارعاً شارعاً وبيتاً بيتاً. وهو ما لا طاقة له به ولا قدرة لجيشه عليه. وإذا ما استمرّ هذا المشهد عدّة أيام، وبتصميم لا يلين، فسوف تقع حكومة نتنياهو في "حيص بيص" سواء أكان في معالجتها لمثل هذه الحالة غير القابلة للمعالجة، أم كان من جانب ما ستتعرّض له من ضغوط رأي عام عالمي، لا يستطيع أن يحتمل بقاء الاحتلال والمستوطنات أمام منظر هذه الحشود الجماهيرية، التي من حقها ألاّ تقبل بالاحتلال أو بالاستيطان أو ببقاء غزة تحت الحصار أو ببقاء الأسرى في الأسر.
هذه الاستراتيجية التي تتضمن عصياناً جماهيرياً شاملاً لكل مدن الضفة الغربية وقراها والقدس وقطاع غزة، مع ما يقوم به الشباب والشابات من أشكال مقاومة بالحجارة والمولوتوف والأكواع والسكاكين والدهس، سوف تفرض على الاحتلال أن يَنْدَحِر، وعلى المستوطنات أن تُفكّك وأن يُطلق الأسرى، ويرفع الحصار عن قطاع غزة، وبلا قيد أو شرط. أي بلا صلح أو اعتراف أو مفاوضات.
فزوال الاحتلال وتفكيك المستوطنات لا يقبلان التفاوض، ولا يجوز أن يطلبا مكافأة أو مقابلاً لما ارتكباه من مخالفة للقانون الدولي، ولما اقترفاه من جرائم متعدّدة الأشكال.
من يستطيع أن يتخيّل هذه الاستراتيجية الشاملة في التطبيق وهي متوفرّة بأيدي الشعب الفلسطيني، إذ ما أسهل أن تنزل الجماهير بقضّها وقضيضها إلى الشوارع. وتعلن تحرير الأرض من الاحتلال والاستيطان والانضمام إلى انتفاضة، شريطة ألاّ تعترضها القوات الأمنية والسلطة الفلسطينية.
هذه الانتفاضة التي تؤكّد، بما لا يقبل الجدال، بأنها تحظى بدعم أوسع قطاعات الشعب الفلسطيني وهو ما أثبتته الجنائز وراء الشهداء أو ردود أفعال الأمهات البطلات، وهن يستقبلن استشهاد فلذات أكبادهن وسجنهم وإصابتهم بالجراح.
إن المشكلة الوحيدة أو المعوّق الوحيد أمام انتصار الانتفاضة وتحقيق الأهداف الأربعة: دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، وإطلاق كل الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة، يتمثلان في موقف محمود عباس وإصراره على إرسال الأجهزة الأمنية التي زاد سعارها في الأسبوع الماضي، لمطاردة أبناء المقاومة والانتفاضة. وقد بلغت الاعتقالات العشرات، وراح عدد من الأبواق يشنون الهجوم على الشباب الذي يضحّون بحياتهم لمقاومة الاحتلال. وقد بلغ الأمر إلى حد إعفاء الاحتلال من جرائمه وإعدامه المُتَعَمَّد لعدد من المارة في الشوارع تحت حجّة أن الحياة أغلى، أو أن من غير الممكن انتصار الانتفاضة بهذه الأساليب.
وهم بهذا يضيّعون على الشعب الفلسطيني فرصة تاريخية في تحقيق انتصار على جيش متداع وعدّو معزول. ويكفي أن تحشد الجماهير سلمياً في شوارع المدن والقرى ولا تبرحها حتى يرحل الاحتلال.
فإذا كان محمود عباس أو دعاة اللاعنف صادقين في موضوع النضال السلمي، فها هي الشوارع بانتظارهم لدعوة الشعب كله لينزل سلمياً إلى الشوارع، ويغلقها في وجه الاحتلال ويعلن إصراره على عدم القبول باستمرار الاحتلال والاستيطان واعتقال الأسرى وحصار غزة. وهذا أمر بيد قيادة فتح إذا ما تعاونت مع حماس والجهاد والشعبية والديمقراطية وكل الفصائل والحركات الشبابية. أما الشعب فيتحرّق لأن ينزل إلى الشوارع وينهي الاحتلال.
فالتاريخ لن يعذر المُعوِّقين والمُثبِطين والذين يجهضون فرص التحرير: تحرير القدس والضفة وفك حصار قطاع غزة وإطلاق الأسرى، لينشأ الوضع الذي يفتح الآفاق لتحرير كل فلسطين من النهر إلى البحر.
مفكر عربي