منذ اندلاع الموجة الانتفاضيّة التي تميّزت باستخدام السكاكين والدهس، يدور حوار بدأ على استحياء، وفي الكواليس، ومن نَفَر قليل، حول الشكل الذي اتخذته، ثم أصبح الحوار ساخنًاً وعلنيًاً، وسُخّرت له وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
اعتبر البعض ما يجرى «انتحارًا» أو «موتًا مجانيًا»، وشُكّلت مجموعات تحمل أسماء «الحياة أبقى من الموت»، و«لا للموت المجاني»، وطالبت بعدم إلقاء الأطفال إلى المعركة حتى يعيشوا طفولتهم، وكأن الاحتلال يميز بين الأطفال وغيرهم، وأن الإعدام الميداني والاعتداءات الإسرائيلية المتنوعة وعمليات القتل والحرق التي جرت قبل وبعد تجري في كوكب آخر بعيدًا عن تواجد الأطفال. كما طالب بعض الكُتّاب القيادةَ والفصائل والمؤثرين على الرأي العام بالتدخل لوقف هذه الظاهرة، ووقف تمجيد وتشجيع زج الأطفال في استخدام السكاكين، مع أن نسبة مشاركة الأطفال في هذه الموجة أقل بكثير مما يجري تصويره، وكأن بعض من يقف خلف هذه الأفكار يختبئ تحت عباءة حماية الطفولة، في حين أنه يحرف الأنظار عن المسؤول الحقيقي عن اتخاذ «الانتفاضة» لهذا الشكل. ووصل الأمر بمحلل معروف أن قال بأن استخدام السكاكين يخالف القانون الدولي، وخلط بينها وبين استخدام السلاح، مع أن المقاومة المسلحة مقرّة في القانون الدولي. وأضاف المحلل أن ما يمنع تحول الهبة إلى انتفاضة شعبية سلمية عارمة كما تطالب القيادة هو استخدام السكاكين والدهس، مع أنه لم يوضح كيف ولماذا لا يكون العكس؟ أي أن الاكتفاء بالمطالبة الآن وسابقًا لفظيًا بانتفاضة سلمية ومقاومة شعبية لم يتحقق، ما يعكس عدم توفر قناعة بالمقاومة كأسلوب إستراتيجي مهما كانت سلمية أو عسكرية، أو عدم جدية أو قدرة المطالبين بتحقيق ما يطالبون به.
إن عدم شق مجرى فعّال للكفاح تقوده القيادة والقوى هو الذي جعل الانتفاضة تأخذ هذا الشكل الذي اتخذته، ويمكن أن تتخذه في المستقبل، أو تتحول إلى أشكال أخرى، مثل استخدام السلاح بشكل واسع بسبب عدم وجود سياسة ومقاومة فعالة، ما أوجد فراغًا، والطبيعة تكره الفراغ. لذلك، وجدنا انتشار انتفاضة السكاكين والدهس، فَلَو كانت هناك مقاومة شعبية حقيقية، أو كان بمتناول الفلسطيني طائرات (F16) وقذائف (RBJ) وكورنيت ومضاد للطيران فإنه لم يلجأ إلى السيارة والسكين والمقص وحفّار الكوسا.
إن أصحاب هذه الأفكار نسوا أو تناسوا أن الموجة الانتفاضية شأنها شأن الشعب الفلسطيني كله، بلا عنوان وبلا قيادة، لأن القيادة والقوى والمؤسسات الوطنية منقسمة وفي حالة توهان وانعدام الخيارات، وتتآكل بالتدريج، ولا تقوم بدورها القيادي والتعبوي والتنظيمي، وبالتالي كيف يمكن مطالبتها بوقف انتفاضة السكاكين والدهس، سواء بزعم أنها كانت خطأ منذ البداية، أو بأنها أوصلت رسالتها وعليها أن تتوقف. لذا، لاحظنا بعض القيادات الذين لسد عجزهم يقدسون العفوية ويتغنون بأن «الانتفاضة» بلا قيادة أفضل، وأنه لو كان هناك تنظيم لفشلت. الحقيقة المرّة أنه إذا استمرت «الانتفاضة» من دون قيادة ولا تنظيم ولا تحديد أهداف ولا توفير إمكانيات، فالاحتمال الوحيد ليس أن تتوقف هذه «الانتفاضة» كما يتمنى البعض، بل إذا توقفت يمكن أن تتلوها بعد فترة قصيرة أو طويلة انتفاضة فردية تستخدم السلاح، وتكون عرضة لتدخلات خارجية، أو ترتد داخليًا وليس ضد الاحتلال.
إن انفجار الغضب الشعبي حدث عندما أصبح المواطن الفلسطيني غير قادر على الاحتمال، وخرج من أجل حق وواجب وطني تجسيدًا للشهادة والتضحية، وليس كشكل من أشكال الانتحار. في ظل تخلف القيادة والفصائل عن القيام بدورها المفترض في توجيه «الانتفاضة»، وتنظيمها، وتوعيتها، وتحديد أهدافها وأشكالها؛ انطلقت «الانتفاضة» عفوية وطغت عليها الفردية، واستمرت كذلك بالرغم من مرور شهرين على انطلاقها. فاللوم هنا يجب ألا يقع على الأفراد الذين لم يعودوا قادرين على التحمّل، وقاموا بدورهم ببسالة منقطعة النظير ادهشت العدو قبل الصديق، وإنما على القيادات والقوى والنخب التي عجزت عن مواكبة الانتفاضة وتوفير متطلباتها.
ما يحصل في فلسطين هو أن الموجة الانتفاضية الحالية أعلى من سابقاتها اللواتي شهدناهن خلال الأعوام السابقة، تحت عناوين: الأسرى، القدس، المقاطعة، الأقصى، الاستيطان.. إلخ، وأنها سبقت القيادة والقوى، وهذا أمر يمكن أن يحدث وحدث سابقًا في الانتفاضة الأولى، ولكن سرعان ما تشكلت «القيادة الوطنية الموحدة» التي حددت إيقاعها، أما هذه الموجة فما زالت يتيمة من دون قيادة ولا تنظيم ولا هدف، أي من دون عقل يوجهها، وهذا أمر لا يمكن تفسيره إلا بأن القيادة تخلّت عن مسؤولياتها، والقوى عاجزة، بينما لم تدرك النخب ما يجري وحجم التغيير الذي يعتمل داخل الشباب الفلسطيني، الذي أدى إلى حصول ما نشاهده الآن. فالقوى إما أنها لا تقدر على قيادة انتفاضة أو أنها لا تريدها لخشيتها من خروجها عن السيطرة، أو استخدامها من قبل خصومها الداخليين وتهديدها للمصالح المكتسبة بعد أكثر من عشرين عامًا على إقامة سلطة «أوسلو»، التي أوجدت أفرادًا وشرائح تحكمت بثروة ونفوذ لم تحلم بهما وخلال وقت قياسي، لذا جل ما يهمها أن تبقى الأمور كما هي عليه من دون تغيير لا بثورة ولا بغيرها، أو أنها قوى مستنزفة من قمع السلطة والاحتلال معًا، وجل ما يهمها توظيف الانتفاضة ضد خصومها من دون رمي كل ثقلها لدعم الانتفاضة، لأنها تخشى من الرد الإسرائيلي على ما يجري في الضفة بتوجيه ضربة قوية لسلطتها في غزة، مثلما تخشى أن تُستثمر بما يفيد خصمها الداخلي.
في هذا السياق، اندلعت واستمرت «الانتفاضة» كانتفاضة سكاكين ودهس، وأنجزت إنجازات كبيرة، سبق أن تناولناها وتناولها غيرنا، وما يحركها جحيم الاحتلال بكل اعتداءاته واستيطانه وعنصريته ووحشيته، الذي وصل حدًا غير مسبوق، ومرشحًا للتصاعد أكثر في ظل اتجاه "إسرائيل" نحو مزيد من التطرّف، ونحو إحياء هدف إقامة «إسرائيل الكاملة» كما يظهر برفض التسوية، وإقامة دولة فلسطينية، وتزايد الدعوات الإسرائيلية لضم «الكتل الاستيطانية»، ومناطق (ج) التي تشكل 60 % من مساحة الضفة، وسحب الهوية من عدد من الفلسطينيين يتراوح ما بين (80-200) ألف مقدسي.
السؤال الأهم الذي يطرح نفسه: ليس لماذا هي «انتفاضة سكاكين»، وإنما لماذا استمرت انتفاضة أفراد، وما مغزى ذلك، وكيف يمكن تفسيره؟ دخلت الموجة الانتفاضية في شهرها الثالث وبدأت عفوية واستمرت كذلك، فلا يمكن محاسبتها وكأنها منظّمة وذات قيادة، حتى نقول إنها توحد العدو وتمكنه من استخدام القوة المفرطة وغير ذلك من الحجج والذرائع، التي يمكن أن تكون جديرة بالاهتمام لو كانت «الانتفاضة» تحركها القيادة أو قوى وفصائل منظمة.
لو كانت هناك مقاومة شعبية فعالة ومقاطعة وملاحقة جدية لـ"إسرائيل" على جرائمها الفردية والجماعية في محكمة الجنايات الدولية وغيرها، لما اتخذت «الانتفاضة» هذا الشكل الذي استدعته الضرورة، لأن الأفراد الذين وصلوا إلى درجة عدم القدرة على الاحتمال تحركوا بهذا الشكل كرد فعل طبيعي على الاحتلال واعتداءاته، لعله يؤثر ويحرك الشعب والقوى والقيادة. وبدلاً من الاعتراف بهذه الحقائق القاسية، وجدنا من ينظر من قادة ومحللين لتنظيمات كبيرة وصغيرة ويقدسون عفوية «الانتفاضة»، لدرجة إعلان قائد بارز أنه لو كان هناك تنظيم أو تنظيمات وراء الانتفاضة لأُفشِلت وتوقفت، مع أنه يتابع كلامه بعد ذلك مطالبًا بإيجاد قيادة للانتفاضة، ويذهب إلى حد التغني بابتعاد الفصائل عن الانتفاضة وكأنها منّة منها، أو ميزة تحسب لها، لأنها لن تتحمل المسؤولية عن عمليات «الانتفاضة».
لا تزال المشاركة الشعبية في «الانتفاضة» محدودة بالرغم من التأييد الكبير لها، بسبب الانقسام، وغياب الرؤية، والتردد بين خيار انتهى ولم يدفن بعد، وخيار ينضج ولم يولد بعد، ولأن الجمهور الواسع يتفرج بين مؤيد لما يجري من دون أن يصل إلى الانخراط فيها، وبين معارض و«بين بين»، والمعارض يضم قسمين: الأول، لا يريد الانتفاضة بأي شكل حتى لو كانت سلمية 100 %، لأنها يمكن أن تمسّ مصالحه ووزنه في السلطة والمجتمع، ولأنها يمكن أن تؤدي إلى انهيار السلطة، بالرغم من أن السلطة كما يردد الرئيس وقادتها أصبحت «سلطة بلا سلطة». أما القسم الثاني، فلا ينخرط في الانتفاضة ويعارضها، لأنه رأى ما انتهت إليه الانتفاضتان السابقتان، حيث كانت المكاسب أقل بكثير من التضحيات والمعاناة، فضلاً عن أنهما انتهيتا إلى الفوضى والفلتان الأمني، إذ انتهت الأولى إلى «اتفاق أوسلو»، بينما وصلنا بعد الثانية إلى الانقسام الأسود. وإذا شعر هذا القسم الواسع من الجمهور الفلسطيني بأن هناك استيعابا للدروس والعبر من التجارب السابقة، أو سعي جدي نحو هذا الاتجاه، أو أن هذه الانتفاضة ستكون مدخلاً لبلورة قيادات وقوى جديدة؛ فسينخرط في «الانتفاضة» بصورة لم تحدث من قبل.