Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

القدس: فصل آخر من التهويد.. نور عرفة

القدس: فصل آخر من التهويد.. نور عرفة

  تدخل القدس من جديد في دائرة العنف والاضطرب، فمع بدء موسم "الأعياد اليهودية الكبرى"، اقتحم مستوطنون إسرائيليون المسجد الأقصى وتوغلوا فيه، بدعم ومساندة من الشرطة الإسرائيلية. في الأثناء، شرعت السلطات الإسرائيلية في تقسيم الحرم مكانيًا وزمانيًا،

حيث فرضت ساعات يومية لا يدخل الحرم أثناءها إلا اليهود، وصنَّفت مجموعات الناشطين من المرابطين والمرابطات للدفاع عن المقدسات الإسلامية كـ«منظمات غير قانونية». وقد ركزت جُلّ وسائل الإعلام أثناء تغطيتها الاضطرابات في القدس على الاشتباكات المباشرة، والتي غالبًا ما توصف بأنها حوادث منعزلة تدلّ على نشوء «حرب دينية» في القدس. غير أن تأطير الوضع على هذا النحو إشكالي جدًا، لأنه يتجاهل اختلال موازين القوى بين المستعمِر والمستعمَر، ولا يراعي تاريخ الاشتباكات الأخيرة ولا السياق الذي انبثقت منه.

تخلق "إسرائيل" منذ العام 1967 وقائعَ على الأرض طمعًا في تحويل القدس إلى "مدينةٍ يهودية" «موحدة من جديد» خاضعة للسيطرة و"السيادة" الإسرائيلية الحصرية. هكذا، كان الحفاظ على أغلبيةٍ "يهودية" في القدس في مواجهة «التهديد الديموغرافي» الفلسطيني مبدأً توجيهيًا تسترشد به السياسات الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية. حيث أقدمت "إسرائيل" في العام 1967 على ضمّ 70 كيلومتراً مربعاً من أراضي الضفة الغربية، بما فيها القسم الشرقي من القدس (6.5 كم مربع)، بحيث زادت مساحة الأراضي المضمومة، وقلَّلت عدد الفلسطينيين القاطنين فيها. كما تعاملت "إسرائيل" مع «التهديد الديموغرافي» بعدم منح الجنسية الإسرائيلية للمقدسيين، وتصنيفهم «كمقيمين» ذوي "حقوق مدنية لا سياسية"، وتمكنت بذلك من إلغاء إقاماتهم في أحيانٍ كثيرة، حيث سحبت 14481 بطاقة هوية من السكان الفلسطينيين بين عامي 1967 و2014.

وفي حين عززت "إسرائيل" الوجودَ اليهودي وحصّنته في القدس، فرضت قيودًا على توسع الفلسطينيين عمرانيًا وديموغرافيًا بتطبيق سياسات «حضرية» وتنظيمية تمييزية. فصنَّفت، مثلاً، ما يزيد على ثلث الأراضي في الأحياء الفلسطينية تحت مسمى «مساحات طبيعية مفتوحة» يُحظَر فيها البناء، وحصرت حركة البناء الفلسطينية في 14 في المئة فقط من مساحة الأراضي. ومنذ العام 1967، هدمت "إسرائيل" 1724 وحدةً سكنية، ممّا أضرَّ بنحو 8100 شخص. وبتنفيذ هذه السياسات مجتمعةً، تهدف "إسرائيل" إلى تحقيق أهدافها المذكورة في «مخططَي القدس الرئيسيَّين» لعامي 2020 و2030 والمتمثلة في بلوغ معدل 30 في المئة من الفلسطينيين و70 في المئة من اليهود.

تتجلى السياسات التمييزية التي تتبعها "إسرائيل" لإجبار الفلسطينيين على ترك القدس في تفاوت الخدمات المقدَّمة للأحياء الفلسطينية واليهودية، حيث تقلُّ مخصصات المناطق الفلسطينية في موازنة البلدية عن 10 في المئة، برغم أن الفلسطينيين يدفعون ضريبةَ الأرنونا (ضريبة الأملاك) تمامًا كاليهود. كما غيَّرت "إسرائيل" أيضًا جغرافية القدس لتغيّر ديموغرافيتها وتضاريسها من أجل أن تصبحَ مدينة يهودية. فشيَّدت حلقةً من المستوطنات حول المدينة، وربطتها بطرقٍ التفافية لضمان التواصل الجغرافي بينها وبين المستوطنات في الضفة الغربية. وتوجد في الوقت الحاضر 16 مستوطنةً في القدس الشرقية يقطنها 210,420 مستوطنًا. وقد رافق عزل القدس مكانيًا وسياسيًا عزلٌ اقتصادي بعد تشييد جدار الفصل العنصري المصمَّم عمدّا لإقصاء المناطق المأهولة بالفلسطينيين كوسيلةٍ لضمان الأغلبية اليهودية.

يقترن هذا التهويدُ بخططٍ لاجتثاث الإنسان الفلسطيني من أجل القضاء على الهوية الفلسطينية في القدس. ومن الأساليب الرئيسية المتبعة في هذا الصدد تغيير المسميات، حيث غيرت السلطات الإسرائيلية لغاية الآن أسماء نحو 300 شارعٍ وزقاق في القدس الشرقية، وآخرها اسم حي في سلوان صادقت السلطات الإسرائيلية في 20 أيلول 2015 على تسميته «شير لمعالوت»، وهو اسم تلمودي يعني الطريق إلى «الهيكل». وترتبط عملية إعادة التسمية هذه بإعادة كتابة التاريخ بما يتماشى والرواية الصهيونية، فهي تختلق تاريخًا يهوديًا للمدينة، بينما تتجاهل تراث الأزمنة الأخرى. كما تستهدف "إسرائيل" كذلك المؤسسات الفلسطينية الناشطة في القدس. فمنذ العام 2001، أغلقت "إسرائيل" 31 مؤسسةً فلسطينية على الأقل، بما فيها «بيت الشرق» و«غرفة التجارة والصناعة». وحدا مناخُ القمع هذا بالعديد من المؤسسات للانتقال إلى خارج القدس، ما تسبَّب في فراغٍ هائل على مستوى المؤسسات والقيادة.

وفي حين تعكف "إسرائيل" على تحويل رؤيتها للقدس إلى واقعٍ ملموس، لا تزال القيادة الفلسطينية تفتقر إلى استراتيجية متماسكة لمستقبل المدينة. فبرغم من خطاب السلطة الفلسطينية الداعم للقدس، تخصّص السلطة ميزانيةً ضئيلة للمدينة، حيث بلغت 0,4 في المئة من إجمالي الإنفاق في موازنة السلطة لسنة 2014، فيما ظروف الفلسطينيين الاجتماعية والاقتصادية تتدهور في القدس وتسوء، حيث يرزح الفلسطينيون تحت وطأة الفقر (75 في المئة من السكان الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر بحسب تعريفه الإسرائيلي)، ويعانون انهيارَ قطاعَي التجارة والسياحة، ونقصَ الاستثمارات، وتردي الخدمات الصحية والتعليمية، وارتفاعَ معدلات البطالة (19 في المئة في العام 2014)، وارتفاع تكاليف المعيشة.

لذلك، ينبغي النظر إلى الاشتباكات بين الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين كتحركات فردية مقاوِمة تفتقر إلى القيادة ضمن النضال التاريخي الأشمل الذي يخوضه الفلسطينيون ضد الاستعمار الاستيطاني، والتمييز الممأسس، والفصل العنصري، والتطهير العرقي، وسرقة الأراضي، والطرد، والتهجير القسري، والتهميش الاقتصادي. إن التركيز على البُعد الديني للاضطرابات الأخيرة، وتجاهل أسبابه الجذرية لا يخدم سوى أهداف "إسرائيل" "السياسية والقومية"، لأنه يعطي "إسرائيل" ذرائعَ أكثر للاعتقاد بأنها فوق القانون الدولي، ما يسمح لها بترسيخ سياسات الفصل العنصري الاستعماري.

الفلسطينيون في هذا السياق بحاجةٍ ماسة إلى قيادةٍ مبادِرةٍ واستباقية تضع قضية القدس في صميم النضال الوطني الفلسطيني بدلًا من الارتكان إلى الخطابات والتحركات الرمزية فحسب. ومن الأهمية بمكان أن يمتلك الفلسطينيون رؤيةً واضحةً للقدس لمواجهة الرؤية الإسرائيلية الجائحة. وينبغي لـ«منظمة التحرير الفلسطينية» السلطة الفلسطينية أن تستفيد أكثر من مكانتها الجديدة، المكتسَبة بعد مشقة، في المنظمات الدولية مثل «اليونسكو» من أجل اتخاذ خطوات قانونية لحماية الأقصى والبلدة القديمة في القدس.

إن الاضطرابات التي تشهدها القدس تمثِّل تحذيرًا لا ينبغي أن يتجاهله واضعو السياسات العرب والدوليون. فعلى هؤلاء أن ينتقلوا من إدانة السياسات الإسرائيلية واستنكارها إلى اتخاذ إجراءات فعلية لمعالجة الأسباب الجذرية للاضطرابات ومحاسبة "إسرائيل" على سياساتها الاستعمارية الاستيطانية بحق الفلسطينيين والتراث الفلسطيني في القدس.